عقود الفيديك: لغة عالمية لتنظيم مشاريع البناء والتشييد
عقـود الفيـديك (FIDIC Contracts):
لغـة عالميـة لتنظيـم مشاريـع البنـاء والتشييـد
(بقلم الحقوقية: دارين صبحي سويدان)
شهد عالم البناء والتشييد تطوراً كبيراً في الآونة الأخيرة؛ ونتيجة لذلك قامت شركات المقاولات باستحداث نماذج عقود واضحة ومعتمدة تشمل جميع الحقوق والواجبات والالتزامات والمسؤوليات لكل أطراف العقد أطلق عليها اسم “عقود الفيديك”، والتي تصنف بأنها من العقود الحديثة نسبياً، فقد تم اشتقاق مصطلح “الفيديك” من الأصل الفرنسي للاتحاد الدولي للمهندسين الاستشاريين الذي اعتمدها لاسيما أن اسمها مستمد من الأحرف الأولى من اسم هذا الاتحاد.
لقد كان الغرض الأساسي من نموذج “عقود الفيديك” هو التقليل من المخاطر المحتملة التي يمكن أن تحصل بعد إبرام عقود المشاريع الهندسية بين المهندسين والاستشاريين والمقاولين وذلك في حال كانت تلك العقود مخالفة لعدة معايير تحمي حقوق الطرفين.
أولاً- ماهية عقود الفيديك (FIDIC Contracts):
هي عقود نموذجية عالمية ابتكرها الاتحاد الدولي للمهندسين الاستشاريين، تنظم كل من العقود الهندسية بالإضافة إلى عقود الإنشاءات المختلفة، والتي تعتبر ركن أساسي في أي شركة إنشائية متخصصة بمجالات الهندسة المدنية، تم تأسيسها عام 1913 في جنيف-سويسرا، وعدد أعضائها في الوقت الحالي يقدر بـِ 97 دولة وما زال العدد في تزايد مستمر.
تتضمن عقود الفيديك شروطاً عامة وشروطاً خاصة للعديد من الأنماط المختلفة لعقود البناء والتشييد، وتعمل على تحقيق التوازن بين حقوق وواجبات أطرافها، وتقوم بتحديد مراكزهم القانونية؛ لتوحيد وتنظيم القواعد القانونية المطبقة بشأن أعمال البناء، وهي مستخدمة على نطاق واسع لأنواع مختلفة من المشاريع الهندسية المحلية والدولية في كل أنحاء العالم، وقد تم تعديلها وتطويرها بشكل مستمر لتتماشى مع تطورات القوانين في مختلف الدول ولتتلاءم مع استشارة المهندسين، ورابطة المحاميين الدولية وبعض المنظمات الدولية كالبنك الدولي على سبيل المثال؛ كل ذلك من أجل ضمان وجود توافق بين قواعدها وقواعد أغلبية الأنظمة القانونية للدول الأوروبية ودول العالم.
ثانياً-أهم مزايا وإيجابيات عقود الفيديك:
- تصنف بأنها عقود متنوعة ومختلفة؛ كونها تنقسم إلى أشكال وأنواع مختلفة من العقود النموذجية التي يمكن للشركات اختيار أي نوع وشكل يناسب موضوع العقد الذي تريده، مثل: حجم المشروع وطبيعته ونوع البناء والغاية الأساسية من العقد.
- تقلل الوقت والجهد والتكلفة؛ فعقود الفيديك تقوم بتقريب وجهات النظر بين أطراف العقد مما يساعد على اجتياز مرحلة المناقشات والمطالبات المتعلقة بشروط العقد وأحكامه بشكل أسرع ووقت وجهد قليلين، وهي بذلك اختصرت تكاليف تعيين أخصائي حتى يقوم بهذه المهمة.
- توفر عقود بلغات متعددة؛ فقد تم نشر كل أشكال وأنماط عقود الفيديك باللغة الإنجليزية بالإضافة إلى 20 لغة مختلفة مثل اللغة الفرنسية واليابانية والصينية وغيرها من اللغات الأساسية الأخرى، وهذا يعني أن هذه العقود جاهزة للاستخدام في أكثر من 100 دولة مختلفة بدون تكبد أي تكاليف أخرى من أجل ترجمتها إلى لغة أحد أطراف العقد أو كليهما معاً.
- توفر فرصة أكبر للمنافسة السعرية؛ بأنها تسمح بزيادة أعداد الأشخاص المشاركين في عرض السعر داخل المناقصة أو تشجع على المنافسة السعرية بين مقدمي العطاءات؛ وهذا ما جعل عدد كبير من المقاولين يقومون باعتمادها في غالبية تعاقداتهم كونها ساعدت على ضمان أسعار أقل في نهاية المطاف.
- تركز على مشاريع الشركات؛ فعند القيام بتنفيذ أي عقد من الصفر يتوجب عليك أن (تحدد أطراف العقد، وتعين محامي لإدارة بنود العقد وإجراءات تسوية المطالب العامة بين الأطراف) الأمر الذي سيأخذ وقت وجهد كبير، ففي عقود الفيديك تم اختصار هذه الأمور كونها مهيأة لهذا الشكل من العقود، فمن خلالها ستصرف تركيزك على المشروع المقصود مباشرة مع إدارة أي خطر محتمل بكفاءة جيدة.
- تحقق نسب عالية من النجاح؛ ويرجع السبب في ذلك أنه قد تم اعتمادها واستعمالها لكل الاستشارات الهندسية الدولية، وأي عقد يتم استصداره عن سلسلة هذه العقود يعد ذا ثقة عالية بالنسبة لأطراف العقد والمهندسين من الشركات المختلفة، وأيضاً تم اعتمادها كمعيار عالمي لكتابة عقود العمل التي تدور في مجال البناء والإنشاءات؛ لأنها حققت نسب عالية من النجاحات المتتالية الأمر الذي جعلها من العقود الأكثر استعمالاً واعتماداً.
ثالثاً-أهمية عقود الفيديك:
أ. حققت مبدأ “الكفاية الذاتية” لعقود البناء والتشييد، كونها متميزة بحسن إعدادها والتوزيع العادل لأي مخاطر محتملة مع الإشارة إلى التنظيم المتكامل لعقود البناء بشكل تفصيلي، وهذه الأحكام التفصيلية تحدد حقوق والتزامات أطرافها، وتبين طريقة تنفيذ العقد وتقلل الوقت والجهد المبذول في حل أي مشكلة قد تنشأ؛ فالغاية الأساسية منها هي تسهيل مهمة الأطراف ما يوفر الأمان القانوني لأصحاب العمل والمقاولين.
ب. حددت أطر وأسس تعاقدية سابقة تساعد في تخطي أي مشكلة قد تحدث في الإنشاءات المحلية والدولية؛ كونها تهدف إلى التخفيف من المخاطر المحتملة التي قد يتعرض لها أصحاب العمل، المقاولون، والمهندسون أثناء القيام بتنفيذ المشاريع.
ج. رسمت طريق واضحة المعالم لعلاقة كل من صاحب العمل، المقاول، وجهاز الإشراف، وحددت المراكز التعاقدية والقانونية لكل أطراف العقد.
د. حصلت على الاعتماد من البنك الدولي وغرف التجارة الدولية والمقرضين الدوليين، فبعض هذه المؤسسات المقرضة أصبحت تشترط الاعتماد لأي عقد فيديك من أجل قبول طلب الإقراض.
رابعاً- أطراف عقود الفيديك:
يتم إبرام عقود الفيديك بين طرفين رئيسيين وهما:
- صاحب العمل: هو الجهة التي تمول المشروع وتملكه.
- المقاول: هو الجهة التي تقوم بتنفيذ المشروع.
خامساً- بنود عقود الفيديك:
تتضمن عقود الفيديك مجموعة من البنود التي تحدد حقوق وواجبات كل طرف من أطراف العقد، وتشمل هذه البنودة عادةً:
- وصف المشروع: يُحدد في هذا البند نطاق عمل المشروع ومواصفاته.
- المدة الزمنية: يُحدد في هذا البند مدة تنفيذ المشروع بجدول زمني يشمل جميع المراحل المختلفة له.
- الثمن: يُحدد في هذا البند سعر المشروع وآلية الدفع الخاصة به.
- التفتيش: يُحدد في هذا البند إجراءات التفتيش والاختبارات المتعلقة بالمشروع.
- حل النزاعات: يُحدد في هذا البند الآلية المتبعة لحل النزاعات والخلافات التي قد تنشأ بين أطراف العقد.
- التأمينات: يُحدد في هذا البند أنواع التأمينات التي يجب على المقاول الحصول عليها.
سادساً- أنواع عقود الفيديك:
قام الاتحاد الدولي للمهندسين الاستشاريين بإصدار عدة أنواع من العقود النموذجية (عقود الفيديك) في مجال البناء والتشييد، وكل عقد تم تسميته بحسب لون الغلاف الذي صدر فيه؛ لتسهيل عملية التمييز بينه وبين العقود النموذجية الأخرى؛ الأمر الذي ساعد على اختيار النموذج المناسب منها بما يتلاءم مع نوع الخدمة أو العمل الذي يتطلبه المشروع، ويحوي كل نموذج من نماذج عقود الفيديك مجموعة من الشروط العامة والخاصة، ومن أهم هذه العقود ما يلي:
- الكتاب الأحمر: يعد من النماذج الأكثر استخداماً من الناحية العملية، ويحتوي على نموذج الشروط العقدية لمقاولات أعمال الهندسة المدنية التي يتم تصميمها من قبل صاحب العمل أو نائبه أو مهندسه، حيث يقتصر دور المهندس في هذا النوع من عقود الفيديك على الإشراف وإعداد التقارير فقط، أما المقاول فيعمل على تنفيذ أعمال البناء بحسب تفاصيل التصميمات المقدمة من قبل صاحب العمل، ويمكن أن يطلب تصميم جزء من الأعمال الكهربائية والميكانيكية أو أعمال البناء، أما في حال طلب منه تصميم غالبية الأعمال فمن الأفضل له أن يلجأ إلى اعتماد الشروط الواردة في الكتاب الأصفر.
- الكتاب الأصفر: يشتمل هذا العقد على شروط عقد “مقاولات أعمال الهندسة الكهربائية والميكانيكية” التي صممها المقاول، إذ يقوم بعملية توريدها وتنفيذها بحسب متطلبات صاحب العمل، ونشير إلى أن الاتحاد الدولي للمهندسين الاستشاريين قام بنشر امتداد للكتاب الأصفر يطلق عليه اسم “الكتاب الذهبي”، هذا الكتاب يتضمن شروط تصميم وبناء وتشغيل المشاريع وبعض القواعد الموجودة في الكتب الأخرى.
- الكتاب الفضي: يحوي هذا العقد على شروط عقد “المشاريع المتكاملة” والتي تشمل الهندسة والإنشاء والشراء وتسليم المفتاح، وتسمى أيضاً بـِ “عقود تسليم المفتاح”، يتولى المقاول فيها تحضير التصميم وإعداد التوريد والإنشاء بحسب وصف دقيق مقدم بشأن المشروع المقصود والغرض منه وذلك من قبل صاحب العمل، وكذلك يقوم المقاول بإجراء الاختبارات بعد الانتهاء من المشروع الهندسي بشكل كامل وتسليمه للعمل، ويضمن بموجب هذا العقد سلامة المشروع من أي خطر محتمل قد يحدث أثناء عملية التصميم والتنفيذ، بالإضافة إلى أن الغرض من هذا العقد النموذجي كان الحد من إدخال أي تعديل للأسعار أو لمدة التنفيذ لكن لم يشير إلى دور المهندس بشكل واضح، أضف إلى ملائمته لمشروعات إنشاء محطات توليد الطاقة ومنشآت البترول ومعالجة المياه وشبكات الاتصال السلكية واللاسلكية والمطارات والموانئ البحرية.
- الكتاب الأخضر: يعد نموذج لـِ “عقود البناء” أو “الأعمال الهندسية” التي تكون قيمتها المالية صغيرة نسبياً أو قصيرة من الناحية الزمنية، ويسمى أيضاً بـِ “العقد الموجز” وفيه يقوم المقاول بتنفيذ أعمال البناء أو الأعمال الكهربائية والميكانيكية بحسب التصميم الذي يتم بوجود صاحب العمل أو معرفة من ينوبه أو بالاشتراك ما بين صاحب العمل والمقاول.
سابعاً- المبادئ الذهبية الخمسة لعقود الفيديك:
شمل فيديك المبادئ الذهبية الخمسة (Five Golden Principles) في مقدمة الشروط الخاصة به وهذه المبادئ هي:
- وجوب الحفاظ على واجبات وحقوق والتزامات ومسؤوليات وأدوار أطراف العقد والمتوفرة في الشروط العامة.
- صياغة الشروط الخاصة بشكل واضح وبدون أي غموض فيها.
- ألا تغير الشروط الخاصة بها من المنافع والمخاطر بين أطرافها والواردة في الشروط العامة.
- أن تكون الفترة الزمنية (المدة المحددة) في العقد معقولة بحيث تتيح لأطرافه إمكانية أداء التزاماتهم وواجباتهم.
- أن تتم إحالة أي نزاع أو خلاف قد ينشأ بين أطراف العقد إلى مجلس لحلها وإصدار قرارات ملزمة بشأنها، وهذا كشرط سابق للتحكيم.
ثامناً- تأثير صياغة عقود الفيديك على تحديد القانون الواجب التطبيق:
نشأت عقود الفيديك في طبعتها الأولى عام 1957م مستندة إلى النموذج الإنجليزي مع الأخذ بنظام القانون الإنجلوسكسوني كأساس لبعض قواعدها، لذلك غلبت على شروطها وأنماطها أفكار ومفاهيم القانون الإنجليزي من حيث الشكل والمضمون، أدى ذلك إلى اختلاف بعض قواعدها عن تلك المطبقة في الدول التي تأثرت بالقانون المدني الفرنسي، مثل الدول العربية ودول أفريقيا الناطقة بالفرنسية، ولذلك بذل الاتحاد الدولي للمهندسين الاستشاريين جهودًا في الطبعات اللاحقة لجعلها وثيقة أكثر دولية تتوافق مع مختلف النظم القانونية الأخرى.
ورغم إتاحة حرية اختيار قانون العقد في عقود الإنشاءات الدولية، ونأيها عن الاعتماد الكلي على القانون الإنجليزي، نلاحظ هيمنة أفكار هذا النظام على عقود الفيديك بشكل مبالغ فيه، وعند تفسير هذه العقود يتم تطبيق القانون الوطني، مما يخلق صداماً مع بعض المفاهيم القانونية، مثل مفهوم القوة القاهرة غير المعترف به في القانون الإنجليزي، ويُصعّب ذلك إيجاد معايير دقيقة للترجمة الشفوية، ويُلقي على عاتق القاضي الوطني عبئاً إضافياً يتمثل في دراسة أنظمة قانونية غريبة عن قانونه الوطني.
كما ويُواجه تطبيق عقود الفيديك تحديات تتعلق بتحديد القانون الواجب التطبيق، حيث تُظهر بعض الأطراف ميلاً مبالغاً فيه للاعتماد عليها كلياً مع تجاهل القانون الوطني، ويُعتقد أن عقود الفيديك بوصفها وثيقة دولية معترف بها تُلزم القاضي بتطبيق أحكامها، وأن تفسير أي نزاع ينشأ بين الأطراف سيكون وفقاً للقانون الإنجليزي، ولذلك عالجت عقود الفيديك هذه المسألة من خلال النص على أن “يخضع العقد لقانون الدولة أو أي سلطة أخرى، على النحو المُحدد في ملحق عرض المناقصة”.
وكذلك تلجأ بعض المحاكم مثل المحاكم الألمانية وبعض المحاكم الدولية، إلى تفسير عقود الفيديك وبعض المفاهيم القانونية الواردة فيها وفقاً للقانون الإنجليزي، ويُعتقد أن ذلك ضروري لفهم المصطلحات والمفاهيم بشكل أفضل، نظراً لانتشار النموذج الإنجليزي في السوق الدولية، إلا أن هذا النهج قد يتعارض مع القانون الواجب التطبيق على العقد، حيث يُقرّ القانون الدولي الخاص بِحرية الأطراف في اختيار القانون الذي يحكم عقداً ما وبناءً على ذلك، يمكن للأطراف اختيار قانون موطن المقاول أو أحد أطراف العقد، أو قانون مكان إبرام العقد، أو قانون مكان تنفيذ أعمال البناء.
تهدف عقود الفيديك النموذجية إلى لعب دور محايد بين أطراف العقد، من خلال ضمان المساواة بينهم وعدم تحيز العقد لأي طرف، وتسعى هذه العقود إلى أن تصبح معيارًا عالميًا موحدًا لتنظيم عقود البناء؛ من خلال مواكبتها المستمرة للتطورات الحاصلة في مجال البناء والأبنية التحتية، ونظراً لمزاياها العديدة من المتوقع أن تستمر في لعب دور هام في مجال البناء على مستوى العالم في السنوات القادمة.
بقلم الحقوقية: دارين صبحي سويدان
مواضيع أخرى ذات علاقة: