Login

Lost your password?
Don't have an account? Sign Up

الدستورية بين الفكرة والأيديولوجيا: من الاحتكار الليبرالي إلى التنوع العالمي

الدستـورية بيـن الفكـرة والأيديولوجـيا:

من الاحـتكـار اللـيبـرالي إلى التنـوع العــالمي

 

تُعد الدستورية أحد المفاهيم المركزية في النظرية الدستورية الحديثة، ليس فقط لأنها تحدد طبيعة السلطة السياسية وكيفية تنظيمها، بل لأنها تعكس أيضًا مستوى التطور السياسي والقانوني في الدولة. ويختلف معنى الدستورية باختلاف الرؤية المتبناة لطبيعة الدستور ذاته، وباختلاف المدارس الفقهية التي تتناول هذا المفهوم. فمن ناحية، يُنظر إلى الدستور باعتباره وثيقة قانونية مكتوبة تنظم بنية الدولة وسلطاتها؛ ومن ناحية أخرى يُنظر إليه كمنظومة قيم ومبادئ سياسية تتجسد في نص ملزم. هذا التعدد في المفاهيم يجعل من الدستورية ظاهرة معقدة تتجاوز مجرد وجود دستور مكتوب.

 

أولًا – التطور التاريخي لفكرة الدستورية

لا يتفق الفقه على نقطة بداية محددة لظهور الدستورية. فبينما يرى اتجاهٌ أن الدساتير المكتوبة الأولى – كالدستور الأمريكي 1787 والدستور الفرنسي 1791 – هي نقطة الانطلاق الحقيقية، يؤكد اتجاه آخر أن الدستورية بدأت قبل ذلك بكثير، في التجربة الإنجليزية التي وضعت أسس الحكم الدستوري من دون دستور مكتوب.

ففي إنجلترا، أسهمت وثائق مثل الميثاق الأعظم (1215)، وقانون الحقوق (1689)، وتقاليد المسؤولية السياسية، في ترسيخ مبدأ تقييد السلطة قبل نشوء الدساتير المكتوبة. هذا يجعل الدستورية ظاهرة تاريخية سبقت النصوص، وارتبطت بتطور مبدأ سيادة القانون قبل أي شيء آخر.

أما التجربة الأمريكية، فقد شكّلت نقلة نوعية لأنها جمعت للمرة الأولى بين الدستور المكتوب والرقابة القضائية على دستورية القوانين، مما منح الدستور قوة قانونية عليا، وفتح الباب لولادة دولة دستورية تتحرك داخل إطار من المبادئ والقيم الملزمة.

 

ثانيًا – الدستورية بين المفهوم الشكلي والمفهوم المادي

يرتبط تعريف الدستورية بالموقف من الدستور نفسه: هل هو مجرد نص مكتوب يحدد مؤسسات الدولة واختصاصاتها، أم هو تجسيد لمبادئ سياسية مثل سيادة الشعب والفصل بين السلطات وحماية الحقوق؟

تتبنى المدرسة الشكلية مفهومًا ضيقًا للدستور، وتعدّ كل وثيقة مكتوبة تحدد شكل الدولة وسلطاتها دستورًا، بغض النظر عن مضمونها. وفق هذا التصور، تكمن الدستورية في وجود نص يُنظم السلطة، ويُعدّ مرجعًا أعلى لبقية القواعد القانونية.

أما المدرسة المادية، فتربط الدستورية بالمبادئ الأساسية للنظام السياسي، وترى أن الدستور لا يكون “دستورًا” بالمعنى الحقيقي إلا إذا تضمّن ضمانات الحرية والفصل بين السلطات وحماية حقوق الإنسان. فالنظام الدستوري، وفق هذا الاتجاه، ليس مجرد وثيقة، بل منظومة قيمية تُقيد السلطة وتحدّ من استبدادها.

 

ثالثًا – الليبرالية والدستورية: العلاقة والانتقادات

حرص منظّرو الفكر الليبرالي على حصر مفهوم الدستورية في الإطار الليبرالي وحده، معتبرين أن الدستور الحقيقي هو ذلك الذي يتضمن المبادئ الليبرالية التقليدية، وعلى رأسها: الفصل بين السلطات، حماية الملكية الخاصة، ضمان الحقوق الطبيعية، والحدّ من تدخل الدولة. ووفق هذا التصور الضيق، جرى استبعاد النماذج الدستورية الأخرى – وخاصة الاشتراكية والإسلامية – من دائرة الدساتير الحقيقية، ووصفها بأنها دساتير “صورية” أو “ورقية” لا ترقى إلى مستوى الدستور بمعناه المتعارف عليه في الفكر الليبرالي.

غير أنّ هذا الفهم واجه انتقادات واسعة لاعتباره الدستور نتاجًا لإيديولوجيا بعينها، في حين أن التجربة الدستورية ظاهرة عالمية تتجاوز النموذج الغربي وتتنوع بتنوع الخصوصيات السياسية والاجتماعية للدول. فحصر الدستورية في الليبرالية يختزل التعقيد التاريخي والفكري الذي رافق نشوء الدساتير في مختلف المجتمعات، ويقلل من قيمة التجارب الدستورية التي نشأت خارج السياق الليبرالي.

كما أن هذا النهج يحول دون دراسة وتحليل الأنظمة غير الليبرالية ضمن إطار دستوري علمي، إذ يُسقِط عنها صفة الدستورية ابتداءً، مما يؤدي إلى رؤية ناقصة وغير موضوعية للواقع السياسي. فالتجارب الاشتراكية والملكية والإسلامية، على اختلاف توجهاتها، قد نجحت في صياغة دساتير مكتوبة، وتطبيقها، وتطوير مؤسسات حكم قائمة عليها، وهو ما يؤكد أن الدستور لا يُختزل في نموذج واحد أو إيديولوجيا واحدة.

وعليه، فإن حصر مفهوم الدستورية في الليبرالية يمثل نوعًا من الاحتكار الفكري، يقوم على افتراض مسبق بأن الدستور لا يكون دستورًا إلا إذا طابق المعايير الغربية. ويؤدي هذا التصور إلى تجاهل خبرات دول عديدة اعتمدت نظمًا سياسية مغايرة، لكنها تمتلك دساتير فعّالة وتحكم حياتها السياسية والقانونية بقدر كبير من التنظيم والاستقرار.

 

رابعاً – خاتمة

تُظهر الدراسة أن الدستورية ليست مجرد فكرة قانونية ضيقة، بل هي ظاهرة سياسية وفكرية تحكم طريقة تنظيم السلطة في الدولة. كما أن ربط الدستورية حصريًا بالنموذج الليبرالي ينطوي على قصور واضح، إذ يحجب حقيقة التنوع الإيديولوجي والتاريخي للدساتير. ومن هنا، فإن تبني مفهوم شامل ومرن للدستورية يتيح فهمًا أكثر واقعية للأنظمة السياسية، ويُسهم في تحليل التجارب الدستورية المختلفة بعيدًا عن النزعة التقييمية.

 

مواضيع أخرى ذات علاقة:

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

*
*

افتح المحادثة!
بحاجة لمساعدة !
مرحبا
كيف يمكننا مساعدتك !