دور العقوبات في تصحيح السلوك وإعادة التأهيل
بحث قانوني
دور العقوبات في تصحيح السلوك وإعادة التأهيل
(بقلم الباحثة: وعد صلاح الدين عواد)
المقدمة:
تعد العقوبة جزءاً أساسياً من نظام المحاسبة و التصحيح في عالم القانون و العدالة، فهي جزء من نظام العدالة والتصحيح وإعادة التأهيل حيث انه تم التركيز على ذلك اكثر من كونها عقوبات بدنية و سالبة للحرية بل نصح في بعض الحالات ان يتم التوازن بين العقوبة وجهود التصحيح وذلك لنحقق نتائج اكثر فعالية في نظالم العدالة المجتمعية، فالعقوبة “هي الجزاء المترتب على مخالفة النصوص التجريمية التي تقوم بها السلطة القضائية “[1]سلامة، مأمون محمد، قانون العقوبات (القسم العام)، دار الفكر العربي، ص589. من وجهة نظر شكلية اما التعريف الموضوعي لها فهو انتقاص او حرمان من الحقوق الشخصية للجاني. ان الأساس التي تتركز عليه العقوبة بشكل عام هي حماية المجتمع من الاضرار التي تنتج عن الجرائم وجعل المصلحة هي اساس العقاب و قد وضحه ابو حامد الغزالي “ان جلب المنفعة و دفع المضرة مقاصد الخلق في تحصيل مقاصدهم ممكناً”[2]الغزالي، ابو حامد، المستصفى، مصر، ص 288.
فالهدف الذي توخاه المشرع من العقوبة ما هو الا لأجل المحافظة على مصالح الناس و حقوقهم وردع المجرم ومعاقبته (الردع الخاص) ومكافحة ظاهرة الاجرام وتحقيق العدالة وتعويض المجني عليه وعدم افلات المجرم من العقاب.[3]الحلبي , محمد علي, شرح قانون العقوبات القسم العام, دار الثقافة للنشر و التوزيع ,عمان, 2011, ص 237. وما أشار اليه الفيلسوف افلاطون في أهمية اصلاح الجاني .فتسعى العقوبة لتحقيق عدة أهداف، حيث يتصدر هدف إصلاح المذنب أحيانًا كل أهداف العقوبة وبذلك، يساهم المجتمع بشكل واسع وكبير في خلق الظروف الملائمة لظهور الجرائم والشخصيات الإجرامية، لأسباب عديدة.
المبحث الأول:
مفهوم العقوبة و أهدافها في الفقه الجنائي الوضعي
اذا كانت العقوبات في كل اشكالها تسبب اذى للمرء فإنها في اثارها تكون رحمة للمجتمع، فقد كانت العقوبة قديماً هي رد فعل فطرية غريزية من قبل المعتدى عليه للانتقام والصراع من اجل البقاء وكانت تأخذ الطابع الوحشي كالحرق و اطلاق الاسود الجائعة على مرتكبي الجرائم وقطع اطرافه ومنه ما اخذت به الحضارة البابلية ,وفي بداية القرن السادر عشر، وصل العدالة إلى مبد مفاده: ” كل عدالة تصدر عن الملك”. و قد عبَّر آرجوو وهو احد رجال القانون الجنائي في تلك الحقبة، بأن” الثأر ممنوع على الافرادو لا يوجد سوى الملك عبر جنوده ممارسة السلطة الممنوحة له من الاله”[4]العطور، رنا، شرح قانون العقوبات الاتحادي لدولة الامارات العربية دراسة مقارنة مع القانون الأردني والقانون … Continue reading وهي مرحلة التأثر بالعقائد السماوية الدينية فأعتبر المذهب الكنسي ان المجرم مذنب يحتاج الى التَطهُر فتم على اثر ذلك ابتداع فكرة الحبس الانفرادي لبعطى الجاني فرصة لذم نفسه وعتابها فيتوب عن ذنبه وبعد ذلك تطورت هذه النظرية لتصل الى الغاء العقاب البدني واستبدالها بنظرية الدفاع الاجتماعي حيث تم اعتبار ان المجرم ضحية لأخطاء المجتمع و اهماله له واتجهت هذه النظرية الى اصلاح المجرم وادماجه في المجتمع بدلا من فرض العقوبات البدنية و قد نادى جان جاك روسو في كتابه العقد الاجتماعي وذلك لما وجده من عقوبات قاسية على الافراد في زمانه[5]التوم، صالح احمد، نظرية العقوبة بين الفقة الاسلامي والقانون الوضعي، مجلة الدراسات الإنسانية، 2016، ص 47. فالعقوبة ما هي الا إنذار الرسمي من الدولة لكل مجرم.
فالعقوبة هي الجزاء الذي يوقع على مرتكب الجريمة لمصلحة المجتمع وأصول هذا التعريف القانوني يعود الى المدارس الجنائية القديمة و الحديثة وانقسمت هذه المدارس الى رأيين في تعريفهما للعقوبة فانصال المدرسة الشكلية يعرفونها بانها الجزاء المترتب على مخالفة النصوص التجريمية التي تقوم بواسطة السلطة القضائية وهذه هي النتيجة القانونية عن من تثبت مسؤوليته عن جريمة ما حيث يوجد في هذا التعريف بالعقوبة صفتين وهما الشرعية و المساواة وقد وجهت انتقادات شديدة لأصحاب التعريف الشكلي واهمها ان العقوبة ليست مجرد نتيجة قانونية لكل من خالف النصوص التجريمية بل هي حالة اجتماعية لها مميزاتها من حيث ردع الجاني وتقويمه ووقاية المجتمع من خطره اضافة الى كونها تمس انسان في حريته وماله وشرفه وهذه الأمور كلها مقدسة تستوجب الدراسة والتحليل وليس مجرد شكليات متبعة عند اقتراف خطأ فتطبق على المخطئ .
ومن بين هذه الانتقادات نشأت النظرية الموضوعية في تحديد العقوبة، ولكن أصحاب هذه النظرية ذهبوا في تعريفها إلى اتجاهات مختلفة، منها يعرف العقوبة على أنها “انتقاص أو حرمان من الحقوق الشخصية للمحكوم عليه”، ويؤكد أن العقوبة يجب أن تؤدي وظيفةً عامةً تأكيد سيادة القانون, ويرون مؤيّدو هذا الاتجاه أن العقوبة هي مجرد انتقاص بعض الحقوق الشخصية للمحكوم عليه أو حرمانه منها لهدفٍ معين، وهو مكافحة خطر ارتكاب جريمة جديدة من قبل الجاني نفسه أو بقية الأفراد المخاطبين بأحكام القانون. والرأي الاخر يعرف العقوبة بأنها “ما لا يقع على مرتكب الجريمة وبسببها”، ويخالف هذا التعريف سابقه بأنه يروّج لفكرة أن الأذى والإيلام مقصود بهما وبهما يتحقق العدالة التي هي قيمة أخلاقية وليس تأكيداً لسيادة القانون الذي تبرز فيه نظرية الانتقام أكثر من الإيلام. واستناداً إلى ما تقدم يمكننا تعريف العقوبة بتعريف شامل يشمل جانبيها الشكلي والموضوعي، وهو “العقوبة هي الجزاء الذي يقره الشارع ويوقعه القاضي على مرتكب الجريمة”[6]عباس، هناء زايد، فلسفة العقوبة و اصلاح الانسان، الجامعة المستنصرية مجلة كلية التربية، ص 312..
غاية العقوبة في الفقه الجنائي الوضعي:
من بين أولويات التفكير لدى العلماء والفلاسفة القانونيين هي سلامة المجتمع والحفاظ على النظام العام فيه، على الرغم من اختلافهم في الطرق التي يتحقق بها الجرم، إلا أنهم اتفقوا على النتيجة المرجوة من تنفيذ العقوبة عند حدوث الجريمة، ينشأ الفوضى ويتعطل النظام والأمان في المجتمع، فكيف يمكن استعادة الأمور إلى طبيعتها واستعادة الطمأنينة العامة؟ هل يكون ذلك من خلال عقاب الجاني وتنفيذ عقوبته أم بطرق أخرى غير العقاب؟ وقد طرحت فلاسفة القانون الوضعي عدة نظريات منذ بداية القرون الأولى حول أفضل السبل التي تحقق أمان المجتمع، حيث قدموا أساس العقاب, ويمكن تقسيم هذه النظريات إلى أربعة، وهي: النظرية المادية. يؤكد أصحاب هذه النظرية على فائدة العقاب الاجتماعي، حيث يعتبرون العقاب ضروريًا للحفاظ على أمان وسلامة المجتمع. وهناك صورتان اعتمدتهما هذه النظرية، وهما الصورة الفلسفية والصورة الطبيعية، في الصورة الفلسفية، يكمن العلاج في تطبيق العقاب وفقًا للجريمة وآثارها على تسبب الضرر للمجتمع، ويمكن أن يكون هناك نوعان: الأول هو الاصلاح، إذا ثبت أن الجاني يسيطر على نفسه ولا يضر، بل يوجه ويالم لغرض الإصلاح، وأما إذا ثبت أنه من الجناة الذين لا يمكن إصلاحهم، فينبغي فرض العقاب عليه لأجل ترويعهم وعند تطبيق هذا الرأي، يتعدى الأثر إلى الوقاية العامة والخاصة وليس فقط العلاج. إذن، تكون العقوبة في هذا المفهوم عقوبة رادعة لأي شخص يفكر في الجريمة.
بالنسبة للتصور العام في المجتمع، فإن كل من يرتكب جرماً محل للعقاب وبالنسبة لمشاهدة المجرم المعاقب من قبل المجتمع، إذا لم يتأثر بهذا فإنه يجب أن يعاقب فوراً عند ارتكابه فعلًا محرمًا لا لغرض الانتقام، بل دائمًا لغرض الصالح العام وقد اعتُمدت هذه الرؤية في القانون الألماني والأمريكي في تربية المساجين. اما الصورة الطبيعية: يُؤسس أصحاب هذا الرأي للعقاب على فكرة المقاومة الطبيعية للأجسام الحية عند شعورها بالخطر المهدد لحياتها. وقد ذهب أصحاب هذا الرأي إلى أبعد من ذلك حيث نفوا تسمية العقاب بالدفاع عن المجتمع ككائن حي يدافع عن سلامته وأمنه عند شعوره بالخطر وبمعنى آخر، يرد على الاعتداء وبالتالي فإن العقاب واجب بالأصالة وهذه من النظريات الواضحة التي اعتمدتها التاريخ كمفهوم عام للتعامل مع هذه الظاهرة الجريمة وتبنت أراءها وفقًا لأسس ثابتة تتمثل في المقاومة الطبيعية للجسد الحي, ولكن من عيوب هذه النظرية أنها لم تقدم حلاً ناجحًا لكيفية العقاب وتبريره ونوع الفائدة المأمولة من العقاب الصالح أو ترويع المرتكبين للأعمال المحرمة بالإضافة إلى التعقيد العلمي في تطبيق آراء هذه النظرية. وفقًا للنظرية الأدبية: يرون أصحاب هذه النظرية أن أساس العقاب هو العدالة المطلقة وأنه يجب معاقبة كل من يرتكب جريمة؛ فالشخص الذي يرتكب الجريمة يجب أن يعاقب، ويكفر عن ذنبه، بما يتماشى مع مبدأ العدالة وتستند هذه النظرية إلى فكرة التكفير، ولذلك يُطلق عليها “المدرسة الدينية الحديثة”. ومن أبرز علماء هذه النظرية الفيلسوف ليسيان برين الذي اعتبر العقاب تفويضًا من قدرة الله الإلهية للعقاب على الشر, ومع ذلك، تم انتقاد هذه النظرية بسبب تعود أفكارها إلى العصور الوسطى، وأيضًا لعدم توضيحها لأسباب العقاب وضوابطه.
تُعدُّ النظرية العقدية ومحورها الأساسي ضرورة الحفاظ على الحياة الاجتماعية للمجتمع رغم تبايُن آراء أفراده وقامت بتسمية الكثير من الفلاسفة تحت اسم النظرية العقدية والتي تؤكد وجود عقد اجتماعي بين الأفراد وحكامهم يُعاقَبُون فيه عندما يُعصَون الأوامر القانونية ومن أبرز هؤلاء الفلاسفة جان جاك روسو وبيكاربا وهوبز وغيرهم. ومع ذلك، يرى البعض أن أساس هذا العقاب هو تنازل الفرد عن حقه للسلطة من خلال عقد اجتماعي للتدخل عنه للدفاع عن نفسه. ويرون آخرون أن تعرُّض الجاني للعقاب هو طبيعةٌ إنسانيةٌ فردية، ولكن كل هذا يقوم بمهامه من قِبل مؤسسةٍ اجتماعية. ويروي الفريق الأخير أنه يُمكن للمجتمع أن يعيش بدون قوانينٍ ضروريةٍ لتنظيم حياته الاجتماعية، وبالتالي هذه هي الأساس للعقاب، نقد العديد من العلماء هذه النظرية بسبب افتراضها وجود عقد اجتماعي بين الأفراد والمؤسسات الاجتماعية، لكن الواقع يكذب هذا الافتراض، حيث يخضع الفرد لنظام الحياة الاجتماعية بالقوَّة والدليل على وجود هذا النظام قبل أي عقد مذكور في جميع المجتمعات.
اما النظرية المختلطة: تستند هذه النظرية إلى مبدأ المسؤولية الأدبية الشاملة، حيث تشمل نتائج التحليل العلمي لجميع النظريات السابقة. لذا، كتب العديد من المؤلفين البارزين عنها، مثل هاوس وروسي وواورتوالن وغيرهم. ويعتبر الأغلبية أن أساس العقاب هو المنفعة العامة، مما يتطلب منهم المسؤولية الأدبية. إذا كانوا ذلك دقيقين ومعفوين من المسؤولية، فإن أساس العقاب يكون غير مناسب نظرًا لعدم وجود المنفعة العامة. وبهذا يقوم المفكر جارو بجعل المسؤولية كأساس للعقاب، لكن المسؤولية عندهم تختلف سواء كانت أدبية أم نظرية، ويجب فهمها من ثلاثة وجوه. الأول: دراسة أفعال الإنسان وبيان إنه مخير أم مسير. الثاني: دراسة نفسية لتحديد مسؤوليته الطبيعية والعقلية. الثالث: التأكد من مسؤوليته الأدبية والطبيعية، حيث يعيش الإنسان في ظروف غير طبيعية، فلا يمكن وضع مسؤولية أدبية على الشخص إذا كان مضطرًا لارتكاب فعل غير رغبته مثل الإكراه أو حالة فقدان العقل (مثل المجنون) والذي ليس له مسؤولية عليه[7]عباس، هناء زايد، مبحث تم الإشارة اليه سابقاً، ص313 حتى ص315.
المبحث الثاني:
اعادة التأهيل و الدمج في المجتمع
ان اصلاح الجاني هي من اهم الاهداف التي تسعى لها العقوبة اي ان يتم تحسين وضعه النفسي والاجتماعي والاخلاقي واعادة تأهيله ودمجه في المجتمع مرة اخرى، قال صل الله عليه و سلم :”كل ابن ادم خطاء وخير الخطائين التوابين”[8]رواه الترمذي و ابن ماجه، اي تم التركيز في المنهج الوضعي الاسلامي ان ضرورة معالجة المجرم واعادة التوازن في المجتمع برد الفعل المقابل للجريمة وهي العقوبة المناسبة حيث في القانون الحديث لم تأخذ جانباً انتقامياً من المجرم وانما اصلاحاً وتقويماً له[9]التوم، صالح احمد، بحث تم الاشارة اليه سابقاً، ص63.، وكان من رأي المدرسة التقليدية الحديثة فقد نادى الفيلسوف الالماني (ايمانويل كانت),بالعدالةالمطلقة كأساس للعقوبة فالمجرم يعاقب لان العدالة تقتضي ذلك و ترك مرتكب الجريمة دون عقاب يؤذي الشعور بالعدالة في اذهان الناس كما عبر (كانت) ان القوانين الاخلاقية ملزمة بالضرورة يساهم في تشريعها بارادتهم الخاصة عن طريق الهيئات التمثيلية و يلزمون بها كواجب اخلاقي قطعي[10]عبد الهادي، محمود، كيف حول الفيلسوف كانت الاخلاق الى قوانين، قناة الجزيرة الاخبارية وقد عبر ايضاً في كتابه الشهير Crime and Punishment “، عن فكرة الردع باعتبار العقوبة يجب أن تكون عاملًا ردعيًا لمنع ارتكاب المزيد من الجرائم وأهمية وجود نظام فعّال لمراقبة الجريمة وفرض العقوبة لتحقيق التوازن في المجتمع و أحيانًا ضرورة استخدام العقوبة لتأهيل الفرد المسجون وإعادته إلى المجتمع بشكل أفضل. أي ان اعادة التأهيل تعد من الردع الخاص حيث ان العقوبة تكون بالقدر الازم من الايلام الذي يمنع الجاني من التفكير و العودة الى ارتكاب الجريمة مرة اخرى فاعادة التأهيل هي ان يتم تنفيذ العقوبة بطرق العقوبة بطرق تتوافر بها وسائل التهذيب و العلاج حيث يمكن ان يكون هذا من خلال المؤسسة العقابية وان يكون اهلاً للتكيف مع المجتمع وان اساس العقوبة هو الدفاع الاجتماعي ضد الجريمة و بهذا فان هدف العقوبة هي اصلاح الجاني و تأهيله اجتماعياً لكي لا يعود مرة اخرى لارتكاب الجرائم وقام بعض رواد المدرسة التقليدية بنقد ضرورة التوازن في العقوبات، ودعوا إلى تنويع العقوبات بدلاً من تجميعها باعتماد عقوبة تتناسب مع درجة المسؤولية الملقاة على كل فاعل. فعلى عكس ما كان يعتقد فلاسفة القرن الثامن عشر ان الاشخاص لا يتمتعون بنفس الدرجة من التمييز، حيث تختلف الدوافع النفسية من فرد إلى آخر. بحرية الاختيار تحمل المسؤولية، وتكون المسؤولية الكاملة في حالة تمتع الفرد بحرية اختيار كاملة، وتقل بمقدار زيادة أو نقصان لحرية الاختيار كما هو الحال عند انعدام هذه الحرية. وقيل في تبرير ذلك أن سر الانجذاب والشدة فإن هذه المسؤولية تمامًا تبعية لحرية الاختيار، إذ قوة ضبط هذه الحرية هي قدرة الشخص على مقاومة الدوافع الشريرة التي تدفعه نحو ارتكاب الجريمة، وتختلف هذه القدرة من شخص إلى آخر وحسب ظروفه. وعلى نحو خاص، بدت نظرة التسامح من الرؤية السياسية، حيث يكون الدافع فيها نبيلًا. وبشكل عام، دعت هذه المدرسة إلى ضرورة منح القضاة صلاحيات واسعة للتقدير، مما يتيح لهم الحكم بحسب الظروف الشخصية للأفراد. ونتيجة لذلك، تحولت آراء المدرسة التقليدية لتشجيع تنويع طرق تنفيذ العقوبة، وتطالب بتنظيمها بطريقة تحقق تحسين سلوك المجرم وذلك لتفادي مساوئ السجون المطالبة بالسجن الانفرادي.
لكن للاسف ، أظهرت العقلية الواقعية مشكلة مدمرة؛ حيث انتشرت الجرائم، وفشلت أساليب الترهيب، وزاد عدد المجرمين، وفشلت محاولات الإصلاح، وبالتالي فقد اعتبر بعض المدرسين العقوبات التي يفرضها النظام التقليدي غير فعالة ولا مؤثرة، ولذا بدأ من الضروري إجراء تغيير جذري، وهذا ما اقترحه بعض آراء المدرسة الوضعية بعد انتقاد و فشل المدرسة التقليدية.[11]العطور، رنا، بحث اشير اليه سابفاً، ص15-16
يرى أنصار المدرسة الوضعية أن عدم وجود حرية الاختيار لدى الإنسان يستتبع إنكار العقاب كوسيلة جنائية على الجريمة، ويروج لوسائل التمسك بالنفس ليكون رد فعله لا توقيع العقاب ولكن من خلال اتخاذ الإجراءات اللازمة ضد المجرم، وهذا الخطر يواجهه بالتدابير التي يتخذها المجتمع، ففهم العقاب ومفاهيمه المتعلقة بمواجهة الجريمة الخطرة، من دون أن يطلق عليها مصطلحات تعويض ومعاقبة، تختفي. فالمجرم -حسب الطبيب لومبرزو- كالمريض، لا ينبغي معاقبته ولكن معالجة خطورته عن طريق التدابير الوقائية التي يهدف بها لمنع المجرم والدفاع عن الجريمة.
بعد نفي فكرة الاختيار وظهور فكرة الحتمية في هذه النظرية، وطالما أن المتورط غير مسؤول، فهو خطر على المجتمع. ولضمان حماية المجتمع ضد هذا الخطر، يجب اتخاذ تدابير للدفاع عن النفس ضد هذا المخاطر المجرمة، واستئصالها والدفاع عن المجتمع. يتعلق الأمر بدراسة الشخصية النفسية للمتورط وتشكيلها، وذلك لاختيار العلاج المناسب، تماماً كما في الطب، حيث يتم تحديد العلاج بناءً على التشخيص، واختيار التدابير الوقائية المناسبة. لذا يجب أن تكون دراسة المتورط مباشرة وبدون الاهتمام بالجريمة التي ارتكبها، بل بحث عن صفاته وسماته وأفكاره وميوله واتجاهاته النفسية، ومن خلال هذه الدراسات يمكن تحديد طبيعة ودرجة الخطورة التي يشكلها المتورط بحسب درجة خطورته الشخصية. لذا يجب أن تختلف نوعية تدابير الدفاع من حالة إلى أخرى بحسب الخطورة الجرمية المحتملة في كل حالة. فالتدابير الاحترازية تهدف إلى تأهيل المجرم ولكن بشرط ان تكون إنسانية ويراعى فيها آدميته وكرامته.كما ان مدرسة الدفاع الاجتماعي اشارت الى أن يأخذ في الاعتبار الظروف الشخصية للمدان عليه عند الحكم بالعقوبة، ويجب أن يتم إعادة تأهيله لكي يكون قادرًا على الاندماج في المجتمع.[12]العطور، رنا ابراهيم، مرجع تم الإشارة اليه مسبقاً، ص16-20
رؤية افلاطون لاعادة التأهيل:
فقد كان أفلاطون يروج لفكرة إعادة التأهيل للمجرمين من خلال التربية والتعليم، مع التركيز على تحقيق التحول الروحي والأخلاقي لفقد آمن بأن التعليم والتربية يمكن أن تؤدي إلى تحسين الأخلاق والقيم الفردية في “الجمهورية”، و يَعتبر أفلاطون أن الإصلاح الحقيقي للمجرم يجب أن يبدأ من تعديل نفسه وفهم طبيعة الخير والظلم و يرى أن الفرد المعدل أخلاقياً سيسهم بشكل أفضل في الحياة المجتمعية فاقترح تأسيس مؤسسات تعليمية خاصة لتأهيل المجرمين، حيث يتلقون تعليماً يشمل الفلسفة والأخلاق. حيث يؤمن أن فهم الحقيقة والتمحيص الذاتي يمكن أن يسهم في تغيير سلوك المجرم وتحسين وضعه في المجتمع وايضاً اقترح فكرة تحقيق التأهيل من خلال الانخراط في أنشطة مشتركة وحوارات فلسفية فهذا يمكن أن يؤدي إلى فهم أفضل للقيم والعدالة، مما يعزز التحول الفردي. “واعتبر تدرج السجون من امتع ما جاء بفده افلاطون كما يعتبر اجراءاً حديثاً للغاية حيث يبدأ ذلك التدرج من بيت يقام فيه المتهم الذي لم يحكم في قضيته بعد و بعدها بيت لاصلاح المذنب العادي فيقي فيه مدة العقوبة و ثالثهما السجن لاخطر المجرمين وهو ما يتفق مع مبدأ الاصلاح و العدالة”.[13]ظاظا، محمد حسن، القوانين لافلاطون ترجمة من اليونانية الى الانجليزية د.تيلوز، ص83
وترى الباحثة ان اعادة التأهيل والإصلاح للمجرمين تحمل أهمية كبيرة على عدة مستويات منها تقليل الجريمة والإعادة الجنائية بدلاً من التركيز على العقوبات القاسية فقط، يمكن أن تساهم عمليات إعادة التأهيل في تقليل معدلات الجريمة والإعادة الجنائية، حيث يُمكن تحول المجرمين إلى أعضاء فعّالين في المجتمع وايضاً تحسين السلوك والأخلاق تسعى عمليات إعادة التأهيل إلى تعديل السلوك وتحسين الأخلاق، مما يساهم في إعادة تشكيل شخصية الفرد وتوجيهه نحو طرق حياة أكثر إيجابية وتوفير فرص المستقبل بتوجيه الجهود نحو تعليم وتدريب المجرمين، يُمكن أن تفتح عمليات إعادة التأهيل أبوابًا جديدة لهم، وبالتالي تقديم فرص للاندماج الاجتماعي والاقتصادي وعدا عن تخفيف الضغوط على النظام القضائي بدلاً من التركيز الكامل على العقوبات السجنية، يمكن لإعادة التأهيل أن تقلل من ضغوط السجون وتخلق أنظمة أكثر فعالية واستدامة وتعزيز العدالة الاجتماعية حيث تعكس إعادة التأهيل التفكير في تحقيق العدالة الاجتماعية، حيث يُمكن للأفراد الذين ارتكبوا جرائم أن يحصلوا على فرصة للتغيير والتحسين، بغض النظر عن خلفيتهم الاجتماعية.
اما اجابة السؤال (هل تقتصر العقوبة على تصحيح السلوك ام اعادة التأهيل)؟، فترى الباحثة ان العقوبة تقتصر على كلاهما دون انفصال فاعادة التأهيل وتأديب الجاني تؤدي الى تصحيح سلوكه و تهذيبه.
الخاتمة:
في الختام نظهر بوضوح أن إعادة التأهيل والإصلاح تمثل مفتاحًا حيويًا لبناء مجتمع أكثر تفهمًا واستقرارًا و تسليط الضوء على أهمية تغيير نماذج العقوبة التقليدية إلى نماذج تركز على التحول الفردي يعزز فرص تحسين الحياة للمجرمين وتقليل انعدام الأمان في المجتمع. كما ينبغي أن نركز على تطوير برامج فعّالة لإعادة التأهيل، وتتناول الجوانب التربوية والنفسية والاجتماعية للفرد. كما ينبغي أن تتضمن هذه البرامج متابعة دقيقة وفرصًا لتعلم مهارات جديدة تعزز اندماج المجرمين في المجتمع.
اما عن توصيات البحث ان يتم التشدد على ضرورة التفرغ للبحوث المستمرة لتطوير النماذج والبرامج وضمان فعاليتها على المدى الطويل و يُشجع على تعاون الحكومات والمجتمعات المحلية مع المؤسسات الأكاديمية والمنظمات غير الحكومية لتحقيق أفضل نتائج في مجال إعادة التأهيل والإصلاح.
مصادر و مراجع:
- عباس، هناء زايد، فلسفة العقوبة واصلاح الانسان دراسة فلسفية حول العقوبة الاصلاحية في سجن الحالة المركزي، الجامعة المستنصرية مجلة كلية التربية.
- سلامة، مأمون محمد، قانون العقوبات(القسم العام)، دار الفكر العربي.
- الغزالي، ابو حامد، المستصفى، مصر، ص 288.
- التوم، صالح احمد، نظرية العقوبة بين الفقه الاسلامي و القانون الوضعي، مجلة الدراسات الانسانية، 2016.
- درتيوس، وداد، محاضرات في علم العقاب، 2020.
- عباس، نهاد، العقوبة، جامعة نايف العربية للعلوم الامنية.
- الزعبي، عمر بن خالد، مفهوم العقوبة، مجلة الاقتصاد الاسلامي العالمية، 2012، ص 1.
- العطور، رنا ابراهيم، شرح قانون العقوبات الاتحادي لدولة الامارات العربية دراسة مقارنه مع القانون الاردني و القانون الفرنسي، وزارة العدل ادارة البحوث.
- ظاظا، محمد حسن، القوانين لافلاطون ترجمة من اليونانية الى الانجليزية د.تيلوز، مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1986.
- الحلبي، محمد علي، شرح قانون العقوبات القسم العام، دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمان، 2011.
مواضيع أخرى ذات علاقة:
- وسائل الإثبات الحديثة في المادة الجنائية (البصمة الوراثية DNA – والاثبات عن طريق التخدير نموذجاً).
- الانتحار والسلوك الانتحاري.
- تحليل تأثير القوانين الجنائية على العدالة والمجتمع.
- ظاهرة التسول: الأسباب والآثار والعقوبة القانونية وطرق الحد منها.
- انتفاء الجريمة؛ يستلزم إصدار حكم بالبراءة أم قرار بالإفراج؟.
المصادر والمراجع
↑1 | سلامة، مأمون محمد، قانون العقوبات (القسم العام)، دار الفكر العربي، ص589. |
---|---|
↑2 | الغزالي، ابو حامد، المستصفى، مصر، ص 288. |
↑3 | الحلبي , محمد علي, شرح قانون العقوبات القسم العام, دار الثقافة للنشر و التوزيع ,عمان, 2011, ص 237. |
↑4 | العطور، رنا، شرح قانون العقوبات الاتحادي لدولة الامارات العربية دراسة مقارنة مع القانون الأردني والقانون الفرنسي، وزارة العدل إدارة البحوث، ص 3. |
↑5 | التوم، صالح احمد، نظرية العقوبة بين الفقة الاسلامي والقانون الوضعي، مجلة الدراسات الإنسانية، 2016، ص 47. |
↑6 | عباس، هناء زايد، فلسفة العقوبة و اصلاح الانسان، الجامعة المستنصرية مجلة كلية التربية، ص 312. |
↑7 | عباس، هناء زايد، مبحث تم الإشارة اليه سابقاً، ص313 حتى ص315 |
↑8 | رواه الترمذي و ابن ماجه |
↑9 | التوم، صالح احمد، بحث تم الاشارة اليه سابقاً، ص63. |
↑10 | عبد الهادي، محمود، كيف حول الفيلسوف كانت الاخلاق الى قوانين، قناة الجزيرة الاخبارية |
↑11 | العطور، رنا، بحث اشير اليه سابفاً، ص15-16 |
↑12 | العطور، رنا ابراهيم، مرجع تم الإشارة اليه مسبقاً، ص16-20 |
↑13 | ظاظا، محمد حسن، القوانين لافلاطون ترجمة من اليونانية الى الانجليزية د.تيلوز، ص83 |
Pingback: الصحة النفسية في ميزان القانون - موسوعة ودق القانونية