المسؤولية العقدية: بذل العناية وتحقيق النتيجة
المسؤولية العقدية:
بذل العنـاية وتحقيـق النتيجـة
(بقم الحقوقية: رهف أشرف قنابيطه)
يرتكز مبدأ القوة الملزمة للعقد على وجوب احترام الأطراف لما ارتضوه من التزامات تعاقدية، بحيث يصبح كل طرف ملزماً بأداء ما تعهد به، فإذا أخل أحد المتعاقدين بالتزامه، سواء بالامتناع عن التنفيذ، أو التأخر فيه، كان للدائن الحق في الرجوع عليه بالتعويض وفقاً لأحكام المسؤولية العقدية، التي تشكل الجزاء القانوني المترتب على الإخلال بالعقد.
غير أن هذه المسؤولية لا تُفعل إلا عندما يتعذر التنفيذ العيني للالتزام، أي عندما لا يكون بالإمكان إرغام المدين على تنفيذ التزامه بنفسه، فيُستعاض حينها عن التنفيذ بالتعويض عن الضرر الناتج.
وتُبنى المسؤولية العقدية على ركن الخطأ، ويأخذ هذا الخطأ صوراً متعددة بحسب طبيعة الالتزام. فإن كان الالتزام بتحقيق نتيجة، فإن مجرد عدم تحقق النتيجة – ما لم يكن بسبب أجنبي – يُعد خطأً يرتب المسؤولية، حتى دون الحاجة لإثبات تقصير المدين، مما يجعل هذه المسؤولية أقرب إلى الطبيعة الموضوعية.
أما إذا كان الالتزام هو ببذل عناية، فإن تحقق الغاية لا يكون شرطًا في الوفاء، بل يُكتفى ببذل المدين للجهد المطلوب وفق ما يُنتظر من الشخص المعتاد. وبالتالي، لا تقوم مسؤوليته إلا إذا ثبت أنه لم يُبدِ القدر الواجب من العناية.
أولاً – ماهية المسؤولية العقدية
تُعرّف المسؤولية العقدية بأنها التزام الطرف المخل بالتعويض عن الضرر الذي لحق بالطرف الآخر نتيجة إخلاله بالتزام تعاقدي. وهي لا تقوم إلا بتوافر عقد صحيح، ترتب عليه التزامات محددة، يقع الإخلال بها من أحد أطرافه، سواء بالامتناع عن التنفيذ، أو التنفيذ المعيب، أو التأخير غير المبرر.
وقد ذهب بعض الفقه إلى وصفها بأنها “جزاء العقد”، نظراً لكونها نتيجة مباشرة لإخلال أحد المتعاقدين بالتزاماته. وتظهر صور هذا الإخلال من خلال الفشل في التنفيذ الكامل أو الصحيح، أو عدم احترام المواعيد المحددة للوفاء، وتترتب عليه أضرار تجيز المطالبة بالتعويض.
ويُميز الفقه الحديث بين نوعي الالتزامات العقدية: الالتزام بتحقيق نتيجة، والالتزام ببذل عناية، كوسيلة لتحديد طبيعة الخطأ الذي تقوم عليه المسؤولية. ففي الالتزام بنتيجة، يُفترض الخطأ عند عدم تحقق النتيجة، بينما في الالتزام ببذل عناية، يجب على الدائن إثبات أن المدين لم يبذل الجهد اللازم.
ثانياً – الالتزام بتحقيق نتيجة وآثاره في المسؤولية العقدية
الالتزام بتحقيق نتيجة هو التزام يتحدد فيه محل العقد بتحقيق غاية معينة، مثل تسليم المبيع، أو نقل الملكية، أو إيصال شيء في وقت ومكان محددين، أو الامتناع عن عمل. فإذا لم تتحقق هذه النتيجة، دون أن تكون الاستحالة ناجمة عن سبب أجنبي، قامت مسؤولية المدين تلقائيًا.
وفي هذا النوع من الالتزامات، لا يُنظر إلى نية المدين أو مقدار جهده، بل يُعتد فقط بعدم تحقق النتيجة، مما يفترض معه الخطأ، ويضع عبء نفيه على عاتق المدين. ولا يُعفى من المسؤولية إلا إذا أثبت وجود قوة قاهرة أو خطأ من الدائن أو الغير أدى إلى فشل التنفيذ.
وتتأكد هذه القاعدة في الالتزامات السلبية، حيث يُطلب من المدين الامتناع عن تصرف معين. فإذا ثبت قيامه بهذا الفعل، ثبت الإخلال، وترتبت عليه المسؤولية. وقد أيدت المحاكم هذا الاتجاه، ومنها حكم لمحكمة التمييز الأردنية الذي اعتبر التزام العامل بعدم المنافسة صحيحاً ومنتجاً لآثاره، ما دام لا يخالف النظام العام.
وبناءً عليه، فإن مسؤولية المدين في هذا النوع من الالتزامات تُعد مسؤولية قائمة على الخطأ المفترض، تتحقق بمجرّد عدم بلوغ الغاية المتفق عليها، بصرف النظر عن دوافع المدين أو نواياه.
ثالثاً – الالتزام ببذل عناية ومسؤولية المدين
الالتزام ببذل عناية هو التزام يتعهد فيه المدين بالقيام بعمل ما وفقاً لما يبذله الشخص المعتاد من حرص وعناية، دون أن يضمن بالضرورة تحقق النتيجة المرجوة. ويكفي أن يثبت أنه بذل الجهد المطلوب وفقاً لمعيار “الرجل المعتاد”، ليُعد منفذاً لالتزامه.
ومن أبرز التطبيقات على هذا النوع من الالتزامات، التزام الطبيب في علاقته بالمريض، حيث يُسأل عن تقصيره في العناية لا عن نتيجة العلاج. وكذلك الأمر في الوكالة المأجورة، إذ يُطلب من الوكيل تنفيذ التعليمات ببذل عناية الرجل العادي، ويُسأل عن أي تقصير يُخالف هذا المعيار.
وفي هذا الإطار، لا يكفي للدائن أن يُثبت عدم تحقق النتيجة، بل يقع عليه عبء إثبات أن المدين لم يُظهر القدر الواجب من العناية. ويُقدَّر هذا الخطأ بموجب معيار موضوعي، قابل للزيادة أو النقصان بحسب طبيعة العقد أو نص القانون.
ويبقى للمدين الحق في نفي المسؤولية عنه بإثبات السبب الأجنبي، أو انعدام علاقة السببية بين الخطأ والضرر.
رابعاً – الخاتمة:
تناول هذا المقال أثر التفرقة بين الالتزام بتحقيق نتيجة والالتزام ببذل عناية على قيام المسؤولية العقدية، مُبرزاً كيف أن طبيعة الالتزام تُحدد طبيعة الخطأ، وأثره في ترتيب المسؤولية. وقد تبين أن الالتزام بنتيجة يُفترض فيه الخطأ عند الإخلال، بينما الالتزام ببذل العناية يقتضي إثبات التقصير في بذل الجهد المعتاد.
وقد خلص المقال إلى أن التفرقة بين نوعي الالتزامات تُعد ضرورية لتحقيق التوازن بين مصلحة الدائن في الوفاء ومصلحة المدين في عدم تحميله بما لا يطيق، مما يعزز من استقرار المعاملات التعاقدية ويُرسّخ قواعد العدالة في المسؤولية المدنية.
بقلم الحقوقية: رهف أشرف قنابيطه
مواضيع أخرى ذات علاقة: