بيع ملك الغير: دراسة تحليلية وفقاً للقانون المدني السوري
بيـع ملك الغيـر:
دراسـة تحليليـة وفقـاً للقانون المدني السوري
(بقلم الباحث: جعفر فرح خضور)
يعد البيع من أقدم العقود المتعارف عليها وأكثرها شيوعاً وقد تفرّع عن المقايضة عند ظهور النقد كمقياس مشترك للقيمة. وكما هو الحال في بقية العقود، يُشترط لصحة عقد البيع توافر أركانه الرئيسة، ومنها تأسيسه على سبب مشروع، وهو ما يدفع بنا لدراسة أحكام وشروط وآثار بيع ملك الغير، الأخير الذي يفتقد (للمحل) وهو التزام البائع مقابل (السبب) وهو التزام المشتري.
لا يقتصر مفهوم السبب على الهدف البعيد الذي يشكل الباعث الدافع إلى التعاقد لكل مدين على انفراد، بل يشمل أيضاً الهدف المباشر الذي يرمي إليه كل متعاقد تبعاً لنوع العقود التي يبرمها وهو ما ذهبت إليه المادة 137 من القانون المدني السوري. والسبب كركن في عقد البيع الملزم للجانبين يستهدف كلا الطرفين للحصول على التزام الطرف الآخر، أي أن التزام المشتري يتمثل في الحصول على الحق المبيع مقابل التزام البائع في الحصول البائع على الثمن.
عَرّف عقد البيع على أنه: “نقل ملكية شيء أو حقاً مالياً آخر في مقابل ثمن نقدي.” يوضح هذا التعريف أثر البيع بأنه (نقل الحق المبيع من البائع للمشتري)، أي اعتبار نقل الملكية التزاماً في ذمة البائع يتم تنفيذه حكماً بمجرد التعاقد، مع الالتفات لطبيعة الأشياء المراد بيعها طبعاً.
كرّس القانون المدني حالة بيع ملك الغير في المادة 434 حينما قضى في الفقرة/1/ بأنه: “إذا باع شخص شيئاً معيناً بالذات وهو لا يملكه، جاز للمشتري أن يطلب إبطال البيع”. يتضح من نص المادة المذكورة أن الحكم المترتب وهو قابلية إبطال العقد منشؤه انتفاء سبب التزام المشتري الناشئ في الأساس عن انتفاء وجود التزام البائع الرئيس وهو نقل الحق المبيع للمشتري، فإذا انتفى وجود هذا الحق بطل البيع لافتقار التزام البائع لمحل (الحق المبيع) والتزام المشتري لسبب (الحصول على الحق المبيع) والسبب هنا مجرد ومشترك في بقية العقود إضافةً للبيع.
ولكن تجب علينا هنا التفرقة بين أمرين أساسيين لجهة الحكم بالأثر المترتب على انتفاء ملكية البائع. حيث أننا نعلم أن ملكية الأشياء المعينة بذاتها (القيمية) تنتقل بمجرد التعاقد، على عكس الأشياء المثلية التي لا تنتقل إلا بفرزها أو كما هو الحال في البيوع العقارية التي تنتقل بالتسجيل.
ففي الحالة الأولى يكون حكم العقد باطلاً مع انتفاء ملكية المالك إذ أن فاقد الشيء لا يعطيه ولأن ذلك سيجعل المبيع غير موجود، أي العقد بلا محل وبالتالي يبطُل.
أما إذا لم يكن البيع ناقلاً للملكية بحد ذاته فلا يمكن القول باستحالة التنفيذ قبل حلول أجله أو الوفاء به مع ترتيب التزام على البائع بنقل الملكية، ويكون الحكم هنا هو فسخ البيع؛ لعدم تنفيذ البائع لالتزامه بنقل الملكية، وليس الادعاء بالبطلان ابتداءً لانتفاء المحل أو السبب.
أولاً – شروط بيع ملك الغير:
يشترط لبطلان بيع ملك الغير شروط مجتمعة ووفق الآتي هي:
1- ألا يكون البائع مالكاً للمبيع بتاريخ العقد:
كأن يظن البائع نفسه وراثاً عن المالك المتوفى في حين أن وارثاً فعلياً يحجبه، ولا يعتد بعلم البائع أو جهله انتفاء حقه على المبيع، لكن يكون لذلك أثر في التعويض المحكوم به إلى جانب الإبطال لصالح المشتري حسن النية، وفي كلا الحالتين – الجهل أو العلم – يكون مؤيدهما هو البطلان لافتقار العقد لمحلٍ وسبب.
2- أن يؤدي البيع لنقل الملكية فوراً:
وهو ما أشرنا إليه آنفاً في بيع الأشياء القيمية التي تنتقل ملكيتها فوراً بمجرد قيام العقد، ما لم يكن ثمة اتفاق أو نص مخالف حالا دون نقل الملكية الفوري كتعليق انتقال الملكية على أجل، أو على القيام بعمل معين كالفرز (أموال مثلية) أو التسجيل (عقارات) ففي هذه الحالة لا مجال للإبطال تبعاً لانتفاء ملكية البائع عند التعاقد، بل البطلان لانتفاء ملكية البائع للمبيع بالتاريخ المحدد لانتقال الملكية.
ونشير هنا لنقطة هامة، وهي أن المطالبة بالبطلان لا تؤسس على المادة 434 مدني ذات الأثر المقتصر على الأموال القيمية، في حالة المال المثلي طبعاً، بل على المادة 137 (العقد باطلاً إذا لم يكن للالتزام سبب) التي تتناول الالتزام بلا سبب بصورةٍ عامة، أو الفسخ لعدم وفاء البائع بالتزامه وهو نقل الملكية بالتاريخ أو الأجل المحددين.
وعليه لا يمكن طلب إبطال بيع ملك الغير في الحالات الآتي ذكرها، لكون البيع فيها لا ينقل الملكية بشكل فوري:
- بيع المثليات التي لا يملكها المشتري إلا بفرزها.
- البيع المؤجَّل انتقال الملكية فيه لموعد لاحق.
- العقد الذي يلتزم فيه البائع بشراء شيء لنقل ملكيته للمشتري؛ كونه لا يعتبر بيعاً بالمعنى الصحيح بل عقداً قائماً بذاته يلقي على (البائع) التزاماً بعمل لا التزاماً بنقل حق (حق المبيع).
3- ألا يتملك المشتري المبيع نتيجة العقد، فإذا استلم المشتري المبيع استناداً لسبب صحيح كالتقادم أو الحيازة مثلاً فلا يحق له في هذه الحالة الادعاء بالبطلان لانتفاء مصلحته في ذلك. ورد (بنتيجة العقد) فهذا يعني أن انتقال المبيع للمشتري لسبب مستقل عن العقد وامتلاكه له – كالإرث أو الوصية – لا يحول دون ادعائه ببطلانه طالما أن الملكية عائدة لسبب لا ارتباط له بالعقد.
ثانياً- آثار بيع ملك الغير:
1- بطلان البيع:
يحق للمشتري أن يطلب إبطال البيع، والبطلان هنا نسبي لكونه مقرراً لحماية المشتري وليس لغيره الادعاء به، فلا يحق مثلاً للبائع الادعاء بغلطه إذا اعتقد بحسن نية بأنه مالك المبيع كونه يعد مخطئاً في عدم التثبت من ملكيته قبل الإقدام على البيع، ويسقط حق الإبطال في حالتين:
- التنازل عنه من قبل المشتري صراحةً أو ضمناً.
- إقرار المالك الفعلي للعقد، ويشترط أن يكون الإقرار قبل ادعاء المشتري بالبطلان، أما صدور الإقرار بعد الادعاء ولو قبل صدور الحكم لا يؤثر في حق المشتري بطلب الإبطال؛ لأن الحكم بالدعوى يستند لوقت الادعاء فيكرّس حق المدعي (المشتري) عند إقامتها. وبالتالي حتى يسقط حق المشتري في الإبطال يجب صدور إقرار المالك للبيع قبل ممارسة حق الإبطال، وتنشأ علاقة مباشرة بين المالك الذي يحل مكان البائع في الحقوق والالتزامات مع المشتري من تاريخ إقرار العقد بالبيع، فيبرأ البائع وتنحصر العلاقة العقدية بين (المالك) و (المشتري) علماً أن حق المشتري بالإبطال يسقط بمضي سنة من تاريخ علمه بعدم ملكية البائع أو بـ 15 سنة من تاريخ التعاقد.
2- التعويض:
بالإضافة للبطلان يؤدي بيع ملك الغير لالتزام البائع بالتعويض على المشتري حسن النية الذي تعاقد دون علمه بانتفاء ملكية البائع.
جاءت بالتعويض المادة 436 مدني بقولها:
“إذا حكم للمشتري بإبطال البيع وكان يجهل أن المبيع غير مملوك للبائع، فله أن يطالب بتعويض ولو كان البائع حسن نية.”
يتضح من نص المادة /436/ في جزئها (ولو كان البائع حسن النية) أن الالتزام بالتعويض يمتد ليشمل البائع حسن وسيئ النية، أي سواء كان عالماً بانتفاء ملكيته أو جاهلاً لها، ومرد ذلك ارتكابه خطأ في كلتا الحالتين، ويكون للخطأ المقصود في حالة سيئ النية، وغير المقصود في حسن النية أثر في مدى الالتزام بالتعويض، إذ يلتزم الأول بالتعويض عن جميع الأضرار سواء كانت متوقعة أو غير متوقعة، أما الأخير فلا يُلزم إلا بالتعويض عن غير الضرر المتوقع.
أما بالنسبة للعلاقة بين المشتري والمالك الفعلي فجوهرها هو الإقرار، أي إقرار عقد البيع من قبل المالك الفعلي، إذ يبقى العقد عديم الأثر حياله ما لم يقرّه تبعاً لنسبية العقود. ويكون له الحق في طلب استحقاق المبيع في تسلَّمهُ المشتري لاسترداده.
ونصت الفقرة 2 من المادة 434: ” في كل حال لا يسري هذا البيع في حق مالك العين المبيعة”.
مما سبق، نخلُص إلى نتيجةٍ مفادها أن بيع ملك الغير وهو عقد رضائي متقابل يستند إلى فقدان محل الالتزام وفقدان السبب تبعاً لذلك. وهو ما يتعارض مع ركنية العقود التي تؤسس عليها كالمحل والسبب. وتجد بيئتها الإبطاليّة ابتداءً في الأشياء المعينة بذاتها، والفسخ في البيع المؤجَّل أو المعلَّق على القيام بالتزام من قبل البائع. ويكون الإبطال مقرر لمصلحة المشتري ذو المصلحة، ويغدو العقد صحيحاً بإقرار المالك قبل مباشرة ادعاء الإبطال، والحقيقة أن بيع ملك الغير تكريسٌ فعليّ لقاعدة (فاقد الشيء لا يعطيه) لئن لا ينقل ملكية المبيع للمشتري لعدم ملكيته من البائع. وفي كافة الأحوال قد لا يكون العقد بحد ذاته سبباً لامتلاك المشتري للمبيع، ما يعطي الأخير حق التملُّك استناداً لأسباب صحيحة متوافرة كالحيازة في المنقول والتقادم المكسب في العقار.
بقلم الباحث: جعفر فرح خضور
مواضيع أخرى ذات علاقة: