Login

Lost your password?
Don't have an account? Sign Up

الجرائم المرتكبة بواسطة الطابعات ثلاثية الأبعاد: قراءة في المسؤولية القانونية

الجرائم المرتكبة بواسطة الطابعات ثلاثية الأبعاد:

قراءة في المسؤولية القانونية

(بقلم الباحثة: ريم رعد هاشم)

 

دخلت البشرية في العقود الأخيرة مرحلة جديدة من التفاعل مع التكنولوجيا حيث لم تعد الابتكارات مجرد أدوات مساعدة بل تحولت إلى قوى منتجة قادرة على تغيير طبيعة العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والقانونية ومن أبرز هذه الابتكارات الطباعة ثلاثية الأبعاد التي كانت في بداياتها محصورة في المختبرات الصناعية ثم انتشرت لتشمل الطب والهندسة والفضاء وحتى الاستخدامات المنزلية وهذه التقنية المبهرة أثارت في الوقت ذاته مخاوف قانونية وأمنية إذ يمكن أن تستعمل لإنتاج أسلحة غير قابلة للتتبع أو نسخ منتجات محمية بالملكية الفكرية أو تصنيع أدوات محظورة قانونا وهنا يثور السؤال الجوهري كيف يمكن للقانون أن يتعامل مع الجرائم الناشئة عن الطباعة ثلاثية الأبعاد وما هو موقف التشريع العراقي منها؟

 

أولاً – الإطار المفاهيمي للطباعة ثلاثية الأبعاد

الطباعة ثلاثية الأبعاد هي عملية تصنيع مضافة تقوم على بناء المجسمات عبر إضافة طبقات متتالية من مادة خام قد تكون بلاستيكية أو معدنية أو سيراميكية أو حتى أنسجة بشرية ومن الناحية القانونية لا تقتصر هذه التقنية على مجرد أداة تقليدية بل تمثل منصة إنتاج لامركزية إذ تسمح للأفراد العاديين بتصنيع ما كان حكرا على المصانع الكبرى وهذا الطابع اللامركزي يخلق إشكاليات عميقة تتعلق بالرقابة وبالمسؤولية وبحماية حقوق الملكية الفكرية كما يفتح الباب أمام أنماط جديدة من الجرائم لم تكن معروفة من قبل.

 

ثانياً – الجرائم المحتملة الناتجة عن الطباعة ثلاثية الأبعاد

1- تصنيع الأسلحة والذخائر

يمكن باستخدام الطابعات ثلاثية الأبعاد إنتاج مسدسات أو بنادق بلاستيكية بالكامل يصعب كشفها عبر أجهزة التفتيش التقليدية وبعض النماذج الرقمية لهذه الأسلحة متاحة بالفعل على الإنترنت والخطر يتضاعف عندما تكون هذه الأسلحة غير مرقمة ولا تخضع لأي نظام تتبع مما يجعل ضبطها مستحيلا تقريبا وقد نص قانون الأسلحة العراقي رقم 51 لسنة 2017 على تجريم تصنيع وحيازة الأسلحة دون ترخيص.

2- الجرائم الاقتصادية والتزوير

تشمل إعادة إنتاج العملات المعدنية أو الأوراق النقدية عبر قوالب دقيقة كما تشمل تزوير الأختام الرسمية أو العلامات التجارية وكذلك التلاعب بقطع الغيار في مجالات حساسة كصناعة الطيران أو السيارات مما قد يؤدي إلى كوارث إنسانية جسيمة وهنا تطبق مواد التزوير الواردة في قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 وخاصة المواد من 289 إلى 298.

3- الاعتداء على الملكية الفكرية

تتيح الطابعات استنساخ منتجات أو تصاميم محمية ببراءة اختراع أو علامة تجارية أو بحقوق مؤلف وتداول الملفات الرقمية للتصاميم عبر الإنترنت بشكل غير مشروع وقد نظم القانون العراقي حقوق المؤلف والعلامات التجارية والبراءات في تشريعات خاصة مثل قانون حق المؤلف رقم 3 لسنة 1971 المعدل.

4- الجرائم الصحية والطبية

تتمثل في تصنيع أدوات جراحية أو صيدلانية دون رقابة صحية أو إنتاج أعضاء أو أنسجة بشرية مزيفة لا تخضع للمعايير الطبية وهذا يشكل تهديدا خطيرا لصحة الأفراد ويقع تحت طائلة القوانين المنظمة لمزاولة المهن الصحية.

 

ثالثاً – إشكالية المسؤولية القانونية

1- مسؤولية المستخدم

الأصل أن المسؤولية المباشرة تقع على عاتق من يقوم باستخدام الطابعة لإنتاج أدوات أو مواد محظورة لكن الإشكال يظهر عندما يصعب إثبات النية أو الغرض من الاستخدام خاصة إذا كان المنتج قابلاً لاستعمال مشروع وغير مشروع في الوقت ذاته.

2- مسؤولية المبرمج والمصنع

قد تثور مسؤولية المصنع إذا كان يعلم أن منتجاته ستستعمل في أنشطة غير مشروعة وكذلك المبرمج الذي يضع نموذجاً رقمياً لسلاح ثم ينشره عبر الإنترنت قد يعد شريكا في الجريمة وفقا لقواعد الاشتراك والتحريض المنصوص عليها في قانون العقوبات العراقي.

3- مسؤولية مزودي النماذج الرقمية

المنصات الإلكترونية التي تستضيف ملفات الأسلحة أو الأدوات المحظورة قد تتحمل المسؤولية القانونية ويقارن بعض الفقهاء هذه المسؤولية بمسؤولية شركات الإنترنت عن المحتوى غير المشروع الذي ينشره المستخدمون.

4- مسؤولية المشرع

إذا لم يواكب المشرع التطورات التكنولوجية فإنه يترك فراغاً قانونياً يستغله المجرمون لذلك فإن تحديث التشريعات يعد أمراً ضروريا لتفادي هذه الثغرات.

 

رابعاً – المقاربات التشريعية المقارنة

1- الولايات المتحدة

شهدت جدلاً واسعاً بشأن نشر ملفات الأسلحة القابلة للطباعة إذ منعت بعض القوانين هذا النشر لكن بعض المحاكم رأت أن نشر الملفات يندرج ضمن حرية التعبير وهو ما أثار خلافاً دستورياً بين مبدأ الأمن القومي ومبدأ الحقوق الفردية.

2- الاتحاد الأوروبي

ركز على حماية الملكية الفكرية أكثر من الجانب الجنائي وهناك دعوات لتشريع خاص بالطباعة ثلاثية الأبعاد إلا أن المشروع لم يكتمل بعد ويعتمد حالياً على تطبيق النصوص التقليدية للتزوير والملكية الفكرية.

3- الدول العربية

معظم التشريعات العربية لا تتضمن نصوصاً خاصة بالطباعة ثلاثية الأبعاد وغالباً ما يجري تكييف الأفعال ضمن النصوص العامة مثل جرائم التزوير أو الأسلحة أو المخدرات وهو ما ينطبق على التشريع العراقي أيضاً.

 

خامساً – التحديات العملية أمام القانون

  • صعوبة الرقابة المنزلية حيث يمكن لأي فرد أن يقتني طابعة ثلاثية الأبعاد في منزله ويصنع منتجات محظورة دون علم السلطات.
  • الطابع العابر للحدود إذ يمكن تخزين الملفات الرقمية على خوادم خارجية أو تبادلها عبر الإنترنت إلى أي مكان في العالم.
  • ازدواجية الاستخدام فالأداة ذاتها يمكن أن تستعمل في إنتاج طرف صناعي أو مسدس قاتل.
  • قصور وسائل الإثبات التقليدية فالقوانين القديمة لم تتصور وجود أدلة رقمية مادية مما يجعل المحاكم في حاجة إلى خبرة تقنية متقدمة.

 

سادساً – الأبعاد الأخلاقية والاجتماعية

  • التوازن بين الحرية والرقابة فهل من العدل أن يقيد استخدام تقنية نافعة بسبب احتمال إساءة استعمالها.
  • العدالة الاجتماعية حيث قد تستفيد الفئات الفقيرة من الطباعة ثلاثية الأبعاد في الطب والتعليم إلا أن التشديد المبالغ فيه قد يحرمها من هذه الفوائد.
  • الثقة المجتمعية إذ أن انتشار أسلحة غير قابلة للتتبع قد يؤدي إلى تآكل الثقة بين الأفراد والدولة ويزرع شعوراً بانعدام الأمن.

 

سابعاً – مقترحات تشريعية وحلول عملية

  • سن قوانين خاصة بالطباعة ثلاثية الأبعاد تتضمن تعريفات دقيقة للجرائم المرتبطة بها.
  • إنشاء نظام ترخيص للطابعات عالية التقنية على غرار ترخيص الأسلحة أو المواد الكيميائية الخطرة.
  • تجريم نشر النماذج الرقمية للأسلحة والأدوات الخطرة بشكل صريح وواضح.
  • تفعيل التعاون الدولي من خلال اتفاقيات جديدة لمكافحة الجرائم المرتبطة بالطباعة ثلاثية الأبعاد.
  • إنشاء وحدات متخصصة في الشرطة والنيابة للتعامل مع الأدلة الرقمية المادية.
  • تشجيع الاستخدام المشروع للطباعة ثلاثية الأبعاد عبر دعم الابتكارات الطبية والتعليمية لتقليل الحافز نحو الاستخدام الإجرامي.

 

ثامناً – دور القضاء في تكييف الأفعال

القضاء يلعب دوراً محورياً في مواجهة هذه الجرائم إذ يملك سلطة تكييف الأفعال وفقاً للنصوص القائمة فقد يعتبر الطابعة وسيلة للجريمة أو يعد النموذج الرقمي أداة تحريض أو يرى المنصة الإلكترونية شريكاً غير مباشر في الجريمة القضاء الفرنسي توسع في تكييف بعض الأفعال الرقمية على ضوء النصوص التقليدية بينما اصطدم القضاء الأمريكي بعقبات دستورية متعلقة بحرية التعبير أما في العراق فإن القاضي يستند إلى القواعد العامة في قانون العقوبات وقانون الأسلحة وقانون الملكية الفكرية لتكييف الأفعال المرتبطة بالطباعة ثلاثية الأبعاد.

 

تاسعاً – الخاتمة

إن الطباعة ثلاثية الأبعاد تمثل إنجازاً تقنياً عظيماً يمكن أن يسهم في نهضة المجتمعات من خلال دعم الصناعة والطب والتعليم غير أن خطورتها تكمن في سوء الاستعمال الذي يقود إلى جرائم تهدد أمن الأفراد والدول والتشريع العراقي قادر في الأساس على تطبيق نصوصه العامة على هذه الجرائم إلا أن الحاجة ماسة إلى تطويره بإضافة نصوص خاصة بالطابعات ثلاثية الأبعاد لتحقيق الردع المطلوب وبذلك يمكن الموازنة بين الاستفادة من مزايا التقنية وحماية المجتمع من مخاطرها إن التحدي الأكبر يتمثل في صياغة منظومة قانونية مرنة عابرة للحدود قادرة على حماية المجتمع دون أن تكبح روح الابتكار.

 

بقلم الباحثة: ريم رعد هاشم

 

مواضيع أخرى ذات علاقة:

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

*
*

افتح المحادثة!
بحاجة لمساعدة !
مرحبا
كيف يمكننا مساعدتك !