أزمة العقد: في ظل النظرية العامة التي تحكمه وفي ضوء التحولات الاقتصادية والاجتماعية المعاصرة
أزمــة العقـد:
في ظل النظرية العامة التي تحكمه وفي ضوء التحولات الاقتصادية والاجتماعية المعاصرة
(بقلم الدكتور أحمد إبراهيم محمد)
مقدمة:
الأصل أن يخضع العقد حال إبرامه لمبدأ سلطان الإرادة، بأنه بمجرد توافق إرادتين على إحداث أثر ما فإن ذلك ينشئ التزامًا بينهما، وقد جاء نظام المعاملات المدنية السعودي وأورد في الباب الأول: مصادر الالتزام، وجاء الفصل الأول: ليتناول العقد، ونصت المادة (31) على أن ينشأ العقد بارتباط الإيجاب بالقبول لإحداث أثر نظامي، مع مراعاة ما تقرره النصوص النظامية من أوضاعٍ معيّنةٍ لانعقاد العقد، وهذا المبدأ يترتب عليه أمور، أحدها أن العقد شريعة المتعاقدين، والثاني عدم جواز إلغائه أو نقضه إلا برضاء أطرافه، وهذا هو المبدأ العام الذي يحكم كل المعاملات والتصرفات العقدية، وبالرغم من ذلك فإن التطورات الاقتصادية والتغيرات الاجتماعية الهائلة التي تعرضت لها دول العالم أثرت على نظرية العقد، وبشكل خاص مست أحد مبادئها وهو مبدأ سلطان الإرادة، فالنصوص القانون باتت تتسم بشيء من الثبات في ظل تطور كبير وانتشار غير مسبوق للعقود من ناحية، ومن ناحية أخرى كون القاعدة القانونية في النهاية قاعدة سلوك اجتماعي، مما يوحي بعدم انسجام للعقد من حيث النظر ومن حيث التطبيق.
يقف البحث الحالي على معالجة أزمة العقد في ظل قواعده الراسخة والتطور الهائل المعاصر، والله أساله التوفيق والسداد.
مشكلة البحث:
لا تخرج مشكلة البحث في كنهها وبحثها وماهيتها عما ورد في المقدمة سالفة الذكر، فالعقد وقواعده يتسم بالثبات والاستقرار، وهذا يتنافى مع التطور الهائل على جميع الأصعدة في وقتنا المعاصر، فإلى أي حد تتوائم القواعد والمبادئ والأحكام التي تحكم نظرية العقد مع التطور الهائل الحالي، فيقف الباحث وفق ذلك على وضع إجابة أو تصور للتساؤل التالي: هل ما تم من تحولات اقتصادية واجتماعية في ضوء النظرية العامة للعقد قد أحدث ما يُعرف بأزمة العقد وان كان ذلك أين تتبلور أزمة العقد؟.
تساؤلات البحث:
يتفرع عن التساؤل الرئيسي السابق عدة تساؤلات فرعية تتمثل في الآتي:
- ما أساس أزمة العقد.
- ما أساليب تحليل الأزمة العقدية.
- ما أثر أزمة العقد.
أهمية البحث:
تأتي أهمية البحث من أهمية موضوعه فالعقد أحد أهم مصادر الالتزام على الإطلاق، وبالتالي فإذا قامت الشبهات على عدم متابعة نظرية العقد للتطورات الحديثة فإن هناك إشكالية كبرى ترتبط بالجانب النظري وتطال نظرية العقد بالكلية، لذلك فإن بحث هذا الموضوع وحل مشكله من الأهمية بمكان خاصة في ظل هذا التطور الكبير على جميع الأصعدة وكافة المستويات.
أهداف البحث:
يهدف البحث إلى تحقيق الأهداف التالية:
- عرض أساس أزمة العقد.
- تحليل الأزمة العقدية.
- تناول أثر أزمة العقد
- استقراء اجتهادات الكتاب حول موضوع أزمة العقد.
الدراسات السابقة:
لم يقف الباحث على أي دراسة سابقة تتناول أزمة العقد بشكل مركز وبدراسة مستقلة، ولذلك فإن هذا البحث يعد أحد اللبنات الأولى المهمة في بحث هذا الموضوع، وهذا لا يعني عدم وجود المادة العلمية الملائمة للموضوع في بواطن المراجع القانونية ذات العلاقة وخاصة تلك التي تناولت نظرية العقد:
منهج البحث:
تم اتباع المنهج البحثي الوصفي الاستقرائي التحليلي فسيتم العمل على رصد الظاهرة محل البحث وهي أزمة العقد واستقرائها بتتبعها في المراجع ذات العلاقة والكتابات القانونية المختلفة قدر الإمكان وتحليل تلظ الظاهرة للوصول إلى نتائج علمية تخدم الموضوع.
خطة البحث:
المبحث الأول: أساس أزمة العقد وتمظهراتها.
- المطلب الأول: أساس أزمة العقد.
- المطلب الثاني: تمظهرات أزمة العقد.
المبحث الثاني: تحليل الأمة العقدية وأثرها.
- المطلب الأول: تحليل أزمة العقد
- المطلب الثاني: أثر أزمة العقد.
خاتمة البحث وتحوي النتائج والتوصيات.
المراجع.
المبحث الأول
أساس أزمة العقد وتمظهراتها
لتناول أزمة العقد بشكل صحيح يلزم عرض المفهوم والأساس للمشكلة، وهي هنا أزمة العقد، فيقف الباحث في هذا المبحث على تناول مفهوم الأزمة في مطلب أول، ثم في مطلب ثاني أساس أزمة العقد، وذلك كما يلي:
المطلب الأول
أساس أزمة العقد
هيأ الاعتداء على الإرادة الحرة للأطراف المتعاقدة، إضافة لبعض الظروف والملابسات الأخرى المناخ لبداية ظهور خلل في العلاقة العقدية بين الأطراف المتعاقدة، وهو ما أثر بالسلب على هذه العلاقة، ووفق ذلك ظهر اتجاه يدعوا إلى أن هناك أزمة واضحة أثرت على العقد وعلى وجوده ذاته.
فإذا كانت الإدارة قد بلغت قمة الازدهار في القرن التاسع عشر في ظل المذهب الفردي ورواج الحرية الاقتصادية انحصر مبدا سلطان الإرادة نتيجة للتحولات والتغيرات الاقتصادية والاجتماعية الكبيرة التي طرأت نتيجة لظهور الصناعات الكبرى والهائلة والشركات الضخمة والتقدم التكنولوجي وتمركز الاقتصادي والاستثمار في يد فئة معينة استحوذت على الأموال والسلطة دون الفئة الأكبر في المجتمع كالعمال والمستهلكين وغيره من الفئات الأضعف[1]بديع بن عباس، النظرية العامة للعقد في القانون المدنية المعاصر، ص27..
وفي ظل السيطرة من قبل هذه الفئات ظهرت عقود تحمل بين طياتها شروطًا تعسفية لا تقبل النقاش كالعقود النمطية والإذعان، فقد اختفى دور الإرادة تدريجيًا في العقد، واندثرت الحرية التعاقدية شيئًا فشيئًا، وبالطبيعي تأثر العقد بهذا الغيب، وأصبحت الصلة الوثيقة بين العقد والإرادة في طريقها إلى الزوال، وعلى أثر ذلك اختل التوازن العقدي بين المتعاقدين، وهو ما أدى إلى الوقوف أمام علاقة عقدية من حيث الشكل فقط دون الجوهر والمضمون، ولقد كانت هذه النبتة الأولى لخلق الأزمات والاضطرابات في المجال العقدي.
المطلب الثاني
تمظهرات أزمة العقد
العقد يستمد وجوده وقوته من إرادة أطرافه المبرمة له، وتعريف العقد بأنه اتفاق إرادتين أو أكثر لإحداث أثر قانوني معين يبرز هذا الدور الرائد للإرادة في العقد، وارتباطها الوثيق به، نظرًا لكون العقد عملًا إراديًا في المقام الأول، فأساس وجوده هو أساس إرادي، وهذا يعني أن الإرادة لها السلطان الأكبر لإتمام العملية التعاقدية، وهو ما يعبر عنه بمبدأ سلطان الإرادة، وفق ذلك فإن تلاقي إرادة أطراف العلاقة التعاقدية بهدف إحداث أثر قانوني داخل دائرة القانون الخاص، والمعاملات المالية تنشئ عقدًا صحيحًا يرتب آثارًا على عاتق طرفيه طالما أنه لا يخالف النظام العام والآداب العامة[2]بديع بن عباس، النظرية العامة للعقد في القانون المدنية المعاصر، ص21..
وفي ظل النزعة الفردية الإرادية كان العقد بمثابة قانون يخضع له الطرفان، لا يجوز مخالفته إلا باتفاقهما، فكان العقد حقًا شريعة المتعاقدين، ومصدرًا للالتزامات؛ بل إن العقد أعلى من القانون نفسه، لأنه تم قبوله بحرية من الأطراف ولم يفرض عليهم[3]بديع بن عباس، النظرية العامة للعقد في القانون المدنية المعاصر، ص25..
وإذا كانت القاعدة أن العقد شريعة المتعاقدين وأن العلاقة العقدية تقتصر على إلزام المتعاقدين بما ورد فيها فقط دون إلزامهم بما هو بمنأى عنها، إلا أن هذه القاعدة ترد عليها جملة من الاستثناءات، فالعقد لا يقتصر على إلزام المتعاقدين بما ورد فيه فقط؛ بل يتناول أحيانًا ما يكون من مستلزماته وذلك وفقًا للقانون والعرف والعدالة بحسب طبيعة الالتزام.
ويتمثل مضمون العقد في جملة من الالتزامات التي تنشأ وفقًا لما اتجهت إليه الإرادة المشتركة للمتعاقدين، غير أن تدخل القاضي في العقد بإضافة واجبات والتزامات عقدية جديدة مثل الالتزام بالإعلام والمشورة، وواجب الصدق والأمانة وحسن النية والتعاون وغير ذلك، من أجل تحقيق العدالة والتوازن العقدي جعل محتوى العقد لا يقتصر على ما اتجهت إليه إرادة المتعاقدين فقط بل يشتمل أيضًا ما ينشئه القاضي من واجبات والتزامات، فالعقد لا يقتصر على ما ورد حرفيًا في بنوده المتفق عليها؛ بل للقاضي الحق في إنشاء ما يشاء من التزامات من اجل تحقيق التوازن والعدالة في التعاقد[4]بديع بن عباس، النظرية العامة للعقد في القانون المدنية المعاصر، ص50-51..
ووفق ما سبق فلم تعد إرادة المتعاقدين هي المصدر الوحيد لإنشاء الالتزامات العقدية، بل أصبح للقاضي دور مماثل لإرادة الأطراف، حيث يشارك في تكوين محتوى العقد عن طريق إنشاء واجبات جديدة غير مكتوبة بالإضافة إلى ما هو مكتوب ومتفق عليه أصلًا، وهذا بلا شك أدى إلى تشويه فكرة العقد في النهاية.
فأزمة العقد حدثت من خلال عدة أمور أهمها التحولات الكبرى التي أفضت لبروز أوجه جديدة وصيغ مستحدثة للتعاقد والتي حولت العقد من مجرد وسيلة للمعاوضة إلى أداة للتبادل الاقتصادي وآلية لتنظيم العلاقات الاجتماعية، وأضحت العديد من النصوص والأحكام المتصلة بالعقد في منظوره الاتفاقي الشخصي غير متوافقة مع المستحدثات ومستجدات العقد ذاته في أبعاده الحديثة مما افقدها التواصل مع واقع المعاملات التعاقدية.
كما قد تأثرت النظرية العامة للعقد بالعولمة القانونية والاقتصادية واختفت فكرة وطنية القانون وانخرطت القوانين في مسار التحديث، كما يشهد العالم اليوم زخمًا معلوماتيًا مذهلًا وتناميًا ملحوظًا في مجال الاتصالات والمعاملات وتفاعلًا لا متناه مع إشعاع التجارة الإلكترونية وظهور الاقتصاد اللامادي واتساعًا كونيًا لرقعة المبادلات التجارية وهو ما أدخل أنماطًا جديدة من التعامل على بعد لم تكن معروفة ولا متوقعة مهدت لبروز ما اعتبروه ثورة ثالثة بعد اكتشاف الطباعة والثورة الصناعية[5]بديع بن عباس، النظرية العامة للعقد في القانون المدنية المعاصر، ص11-12..
المبحث الثاني
تحليل الأمة العقدية وأثرها
إن اشتراط التوازن والعدالة داخل الرابطة العقدية لهو امر ضروري خاصة في ظل السيطرة التعاقدية للأطراف القوية في أغلب العلاقات التعاقدية والتي شهدتها الحقبة الأخيرة، يعالج هذا المبحث تحليل أزمة العقد بالتحليل والدراسة من خلال مطلبين كما يلي.
المطلب الأول
تحليل أزمة العقد
أولًا: النزعة الشخصية
لقد شكلت النزعة الشخصية الأصل في العقد الذي يقوم على الإرادة طالما كان يعرف بأنه اتفاق إرادتين على إحداث أثر قانوني معين، فالعقد وفق تلك الإرادة هو الذي تستقر به العلاقة بين الطرفين وتتحدد به حقوقهما والتزاماتهما ويصبح قانون المتعاقدين، إلا أن هناك عوامل دعت إلى اللجوء إلى النزعة الموضوعية في تحديد مضمون العقد، وقد أخذت هاتان النزعتان في التفاوت من حقبة إلى أخرى، ومن مرحلة على أخرى يتسع يومًا نطاق النزعة الشخصية كي يتراجع في أحيان أخرى لمصلحة النزعة الموضوعية ثم ترجع الأخيرة لتتراجع لصالح الأولى وهكذا[6]علي الصديقي، مضمون العقد بين النزعة الشخصية والموضوعية، دار منشورات الحلبي الحقوقية، ط.1، 2019م، ص30-31..
وقد ارتبط تأسيس النزعة الشخصية في تحديد مضمون العقد في الدول التي تتبنى المنهج اللاتيني ارتباطًا وثيقًا بنشأة وتطور مبدا سلطان الإرادة، ويرى أنصار هذا المذهب أن الإرادة لها السلطان الأكبر في تكوين العقد وفي الآثار التي تترتب عليه والتي تحدد مضمونه، بل وفي جميع الروابط القانونية ولو كانت غير تعاقدية حتى تولد مبدأ حرية التعاقد كنتيجة لهذا المذهب فلا أهمية تذكر لاقتصاد العقد وتوازنه الموضوعي لأن الفعل الوحيد المقبول به من الطرفين يثبت أنه يتوافق مع مصلحتيهما، فلا تستطيع الدولة أن تكون بديلة عن الأفراد في تقديرهم للصواب بالنسبة لهم[7]علي الصديقي، مضمون العقد بين النزعة الشخصية والموضوعية، ص58..
ولقد احتلت النزعة الشخصية في تحديد مضمون العقد دورًا بالغ الأهمية في تنظيم المعاملات بين الأفراد، فيما يقرره المتعاقدين بإراداتهما هو العدل، كونه التزام إرادي وهو مشروع وعادل.
ووفق ذلك فغن مبدا حرية التعاقد هو الترجمة الحرفية للنزعة الشخصية.
ورغم وضوح النزعة الشخصية إلا أن العوامل السياسية والاقتصادية التي أدت إلى ازدهار النزعة الشخصية في تحديد المضمون العقدي قد أخذت في الانكماش بشكل تدريجي تحت تأثير عوامل أخرى أدت إلى نقد لاذع لمذهب الإرادة الذي يقوم على الفرد باعتباره غاية وهدفًا للقانون، وهو ما دعى لبروز نظرية أخرى مغايرة تتبنى النزعة الموضوعية.
ثانيًا: النزعة الموضوعية
لقد شكلت التطورات الفلسفية والاقتصادية والتاريخية أرضًا خصبة لإقامة حق المشرع أو القاضي لأجل إضفاء فعالية عملية تحفظ التوازن العقدي للأداءات موضوعًا، حتى وإن لم تتجه إرادة الطرفين إلى ذلك، حيث مثلت هذه النظريات المسوغ لإضفاء التزامات أخرى لم تنصرف إليها إرادة المتعاقدين من اجل المحافظة على توازن العقد وتحقيق الغرض من إبرامه[8]علي الصديقي، مضمون العقد بين النزعة الشخصية والموضوعية، ص231..
فالأطراف المتعاقدة عندما تتجه إرادتهما إلى إبرام العقد، فإن كل منهم يتوقع من الطرف الآخر الحصول على مزايا وفوائد من هذا العقد، وهذا الهدف يظل دائمًا وأبدًا مسيطرًا على ذهن طرفي التعاقد.
ولا شك أن هذه الرؤية لها أهمية خاصة في العنصر الموضوعي لمضمون العقد، لنقل قيمة من ذمة مالية إلى لأخرى، كالثمن في البيع ومهلة الرد في عارية الاستعمال، غير أن هذا العنصر الإرادي يمكن أن يكون أن يكون مسألة تبعية، ومن هنا تترجم العقود العينية أهمية رئيسية خاصة في نقل القيمة، وهي عقود لا تتكون فعليًا إلا عند التسليم الفعلي للشيء المعار أو المودع، ذلك بأنه لا يمكن رد إلا ما تم تلقيه فعلًا، فالعقود العينية التي ينظر إليها من قبل من يتمسك بفكرة الرضائية كماض انقضى تعد في واقع الحال حقيقة أساسية في تلك العقود[9]علي الصديقي، مضمون العقد بين النزعة الشخصية والموضوعية، ص237..
وقد ظهرت نظرية تكميل العقد أو إكمال العقد كآلية لتحديد مضمون العقد في النطاق الموضوعي الذي يتجاوز النزعة الشخصية، وتكميل العقد يقصد به وسيلة لمعالجة النقص الذي يشوب مضمون العقد، ويتحقق ذلك بإضافة بعض الالتزامات إلى مضمون العقد الأصلي وفق معايير وضعها المشرع[10]علي الصديقي، مضمون العقد بين النزعة الشخصية والموضوعية، ص268..
المطلب الثاني
أثر أزمة العقد
من غير شك فإن التدخل التشريعي والقضائي الموسع في العلاقة العقدية أدى إلى تهميش وإضعاف المفاهيم والمبادئ التي تعتبر عماد العقد وأساه كمبدأ سلطان الإرادة والقوة الملزمة للعقد والحرية العقدية والأمن العقدي، ويظهر أن التدخل المفرد من أجل تحقيق توازن وعدالة في إطار الرابطة العقدية أدى بدوره إلى تهاوي هذه المبادئ المذكورة خاصة الأمن القانوني ومبدأ القوة الملزمة للعقد.
في هذا المطلب يقف الباحث على أهم الآثار التي يمكن أن تترتب على أزمة العقد، وهذه تتمثل في مبدأ الأمن القانوني الذي أهدره التدخل التشريعي والقضائي الموسع في العقد، ومبدأ القوة الملزمة للعقد الذي همشه التدخل المفرط.
الفرع الأول:
أثر أزمة العقد على مبدأ الأمن القانوني الذي أهدره التدخل التشريعي والقضائي الموسع في العقد
مما تلزم الإشارة إليه أن فكرة الأمن أو الاستقرار القانوني وإن كانت من المصطلحات الحديثة، إلا أنها قديمة في فحواها وفي مضمونها قدمًا مما يؤكد اصالتها وقيمتها في العلاقات القانونية، والمقصود بالأمن القانونية تحقيق الطمأنينة والاستقرار لأفراد المجتمع في علاقاتهم القانونية ومعاملاتهم بعضهم مع بعض واحترام إرادتهم من قبل المشرع والقاضي، وعلى اثر ذلك فغن أي تدخل سواء كان تشريعيًا أم قضائيًا من شأنه أن يزعزع استقرار العقود وأمنها يستوجب نقده والتصدي له في الحال، فاستمرار تدخل المشرع والقاضي في العلاقة العقدية سيكون من شانه أن يزعزع الطمأنينة والأمن داخل هذه العلاقة، بل والعصف بها احيانًا، وهو ما يشكل قلقًا بشان مصير إرادة الأطراف المتعاقدة بل والتعاقد ذاته، ويثور الجدل وفق ذلك حول مسألة الأمن القانوني وحول مسألة التوازن والعدالة العقدية، ومنشأ التساؤل يرجع للغاية من القانون اعتمادًا على ما إذا كان القانون يميل إلى تحقيق الأمن والاستقرار في العلاقة العقدية من خلال إثباتها وعدم التدخل فيها أم أنه يميل لتحقيق التوازن والعدالة بين المتعاقدين[11]حول هذا الخلاف ومنشأة والآراء حوله يراجع: بكر أبو طالب، أزمة العقد: دراسة مقارنة، ص187..
وتقتضي دواعي الأمن القانوني ألا يتدخل المنظم من أجل فرض آليات ومفاهيم مرنة داخل العلاقة العقدية، إضافة إلى أنه يقتضي حصر السلطة التقديرية الموسعة للقاضي في اضيق الحدود، كما لا يحق للقاضي التوسع في تطبيق نص لمادة معينة، أو تفسيرها بمعنى موسع لم يكن يقصده المشرع، فيحظر عليه الاجتهاد داخل الرابطة العقدية، وحتى وإن تم تبرير ذلك بتحقيق العدالة والتوازن، ولأجل ذلك فمن الأفضل أن يتم التوفيق بين الأمن القانوني للعقود والعدالة التعاقدية بمعنى أن يتم التوفيق بين ما هو ثابت مستقر وبين ما هو متغير متطور.
وعلى كل فإن تحقيق الثبات والاستقرار في العلاقات العقدية بشكل متكامل أمر صعب المنال، والمطلوب في هذه الحالة تحقيق قدر من الثبات والاستقرار النسبي لهذه العلاقات وهو ما ينتج عنه تحقيق حد أدنى من الاستقرار ولا يتحقق ذلك إلا من خلال التوفيق بين مسألتين هما الأمن القانونية للعقود والعدالة العقدية.
الفرع الثاني:
أثر أزمة العقد على مبدأ القوة الملزمة للعقد الذي همشه هذا التدخل المفرط
من الضروري احترام الإرادة العقدية بصورتها المتفق عليها في مضمون العقد سواء تم ذلك من قبل الأطراف أي أطراف العلاقة التعاقدية أو حتى من قبل الغير، وهذا الاحترام لن يتحقق إلا فقط من خلال تخويل العقد قوة إلزامية تجاه الأطراف والغير وهو ما يطلق عليه “القوة الملزمة للعقد”.
ووفق ذلك فلا يحق للغير سواء كان مشرع أو قاضي أن يتدخل في العقد إضافة أو حذف أو إنهاء وذلك حفاظًا على القوة الملزمة الممنوحة للعقد، وإلا تندثر تلك القوة، ومن غير ذلك فإن هنا تخوف واضح من إضعاف أو تهميش مبدا القوة الملزمة للعقد بشكل خاص والمبادئ التي يقوم عليها العقد بشكل عام ليس له أساس من الصحة وذرك نظرًا لأن اعتبارات تدخل السلطة القضائية في العقد والتي تهدف لإعادة التوازن العقدي كونها اعتبارات ذات طبيعة استثنائية فرضها المشرع نفسه، فالرقابة القضائية للتوازن العقدي نص عليها القانون في العديد من نصوصه، ويبقى المبدأ هو القوة الملزمة للعقد، وعلى ذلك يمكن القول بِأن البحث المعاصر عن التوازن العقدي لم يضعف المبادئ التي يقوم عليها العقد، ومن الممكن أن يتعسف القاضي حال استخدام السلطة المخولة له بالتدخل في العلاقة العقدية وهو ما يهمش معه مبادئ أساسية يستند إليها العقد خاصة مبدا القوة الملزمة للعقد، ويظهر أن من الضروري أن يتم تضمين كل شيء متعلق بالتعاقد بين الأطراف المتعاقدين بأنفسهم حتى يغلق كل فرصة لتدخل القاضي في العقد، وإلا ضعفت القوة الملزمة للعقد، وبالتالي سيفقد العقد الثقة بين عاقديه، كذلك فمن الممكن أن يستحدث القضاء مفاهيم وآليات لم ينص عليها المشرع في القانون، بل استحدثها القضاء من تلقاء نفسه، ولذلك يمكن الإشارة لتجديد مفهوم السبب ومن الممكن كذلك التوسع في مفهوم التناسب والتي تم استحداثها من القضاء دون أي تدخل تشريعي وكان لها اثر في تهميش المبادئ التي تعتبر أساس العقد وقوامه خاصة القوة الملزمة للعقد[12]ينظر: بكر أبو طالب، أزمة العقد: دراسة مقارنة، ص196-200..
خاتمة البحث:
يرى الباحث أن العقد لا يشهد أزمة بالمعنى الحقيقي للازمة؛ وإنه – أي العقد- قد تطور نظرًا للظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية خاصة وينادي بضرورة التوجه نحو موضوعية عقدية، ومع ذلك لازال العقد صامدًا تجاه التطورات الاقتصادية والمعلوماتية، فليس هناك أزمة بالمعنى الدقيق للأزمة بل إن التطورات المحيطة به تبحث عن سبل تجاوز دور العقد التقليدي لكنها لن تستطع.
وقد تم التوصل من خلال البحث لجملة من النتائج وعدد من التوصيات إفرادها كما يلي:
أهم النتائج:
- في حال ما إذا تواجدت أزمة للعقد فإنها ستختفي قطعًا لأنها ليست وليدة قطعيات ولا مسلمات، لأن العقد يتطور فعليًا مع تطور الأحداث والأزمان والوقائع والمستجدات ولن يحدث هذا التطور مهما بلغ أوجه أي أزمة في تقديرنا على الأقل.
- إن صح إطلاق الأزمة على العقد فإنه يظهر انها أزمة فقهية لا تتعدى ذلك، فلم تصل حدتها إلى القضاء ولم يعالجها المشرع كونها تمثل أزمة بل جاءت في سياقات التنظيم المعتاد للعقد.
- العدالة العقدية ليست سوى تطبيق خاص تهدف إلى إقامة التوازن داخل الرابطة العقدية ويفترض بشكل مسبق أن العقد قد تم وفقًا لأحكام القانون لكنه مجرد افتراض وقرينة بسيطة تقبل إثبات العكس، ففي حالة وجود خلل بين المصالح المتقابلة في العقد أو في الحالة التي يستطيع فيها أحد الطرفين أن يثبت أنه لم يكن في وضع يسمح له بالدفاع عن مصالحه بشكل طبيعي بعد ذلك مبررًا لفرض رقابة على العقد حيث يسمح المشرع في هذا الصدد للقاضي بالتدخل في العلاقة العقدية تكريسًا للعدالة وتحقيقًا للإنصاف داخل هذه الرابطة وهذا ما يجعل القاضي عنصر أجنبي تمامًا عن أطراف العلاقة العقدية وهو ما يضمن حقًا تحقيق الطابع المؤسسي في عدالة العقد.
- العقد لم يأخذ مفهومًا واحدًا منذ نشأته وحتى الوقت الراهن بل أخذ أكثر من مفهوم أي أنه قام على أكثر من أساس يبين كيفية انعقاده وترتيب آثاره ومدى السلطة التي يتمتع بها القاضي عندما ينظر في المنازعات التي تنشأ بين المتعاقدين وبعضهم البعض.
التوصيات
- أدعوى المختصين إلى بذلك الجهد في شرح نظام المعاملات المدنية الجديد حيث قد جمع هذا النظام بين التراث والمستجدات بشكل واضح ورغم ذلك يلزم ان يتعرض له الكتاب لا سيكا فقهاء القانون والشريعة حتى نصل إلى معالجات حقيقية لمسائله يفرزها الواقع وأحكام القضاء وحاجة العصر.
- أوصي الباحثين بتناول التساؤل الكبير محل البحث في مؤلف وتدقيق مسائله بشيء من التحليل والتدقيق المركز، حيث أن نتيجة البحث توصلت إليها من خلال رحلة بحثي المتواضع ولا شك أن البحوث التي تثري الموضوع يكون لها عظيم الفائدة وستعود علي شخصيًا بالنفع الشخصي لأرى هل ما انتهيت إليه من نتائج كان صوابًا ام أن هناك رأي آخر مدلل عليه ومبرهن عليه أولى بالقبول وأجدر بالاعتناق.
المراجع
- مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط، نخبة من اللغويين بمجمع اللغة العربية بالقاهرة، الناشر: مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ط.2، 1420هـ.
- زين الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الحنفي الرازي (ت ٦٦٦هـ)، مختار الصحاح، المحقق: يوسف الشيخ محمد، المكتبة العصرية – الدار النموذجية، بيروت – صيدا، ط.5، ١٤٢٠هـ-١٩٩٩م.
- محمد العمري، الإدارة بالأزمات، مجلة الدراسات الدولية، ع24، معهد الدراسات الدبلوماسية، 2009م.
- عدنان إبراهيم سرحان، الانعقاد: دراسة في قانون الالتزامان والعقود الفرنسي الجديد، سلسلة منشورات مركز البحوث الثانونية، أربيل، ط.1، 2024م.
- بديع بن عباس، النظرية العامة للعقد في القانون المدنية المعاصر، مجمع الأطرش، ط.1، 2017م.
- علي الصديقي، مضمون العقد بين النزعة الشخصية والموضوعية، دار منشورات الحلبي الحقوقية، ط.1، 2019م.
- نظام المعاملات المدنية صدر بالمرسوم الملكي رقم (م/191) وتاريخ 29 ذو القعدة 1444هـ ونشر بتاريخ 01 ذو الحجة 1444هـ.
بقلم الدكتور أحمد إبراهيم محمد
دكتوراه القضاء والسياسة الشرعية
مواضيع أخرى ذات علاقة:
- العقد الإلكتروني والعقود في العالم الإفتراضي.
- مراحل العقد الصحيح والباطل والموقوف والفاسد.
- في المسؤولية العقدية والتقصيرية.
- بحث قانوني حول المسؤولية المدنية والذكاء الاصطناعي.
- دعوى الضرر الناجمة عن عدم مراعاة مصلحة الجوار: بحث مقارن.
- مدى مراعاة الصكوك البنكية الإسلامية لمقاصد الشريعة الإسلامية.
المصادر والمراجع
↑1 | بديع بن عباس، النظرية العامة للعقد في القانون المدنية المعاصر، ص27. |
---|---|
↑2 | بديع بن عباس، النظرية العامة للعقد في القانون المدنية المعاصر، ص21. |
↑3 | بديع بن عباس، النظرية العامة للعقد في القانون المدنية المعاصر، ص25. |
↑4 | بديع بن عباس، النظرية العامة للعقد في القانون المدنية المعاصر، ص50-51. |
↑5 | بديع بن عباس، النظرية العامة للعقد في القانون المدنية المعاصر، ص11-12. |
↑6 | علي الصديقي، مضمون العقد بين النزعة الشخصية والموضوعية، دار منشورات الحلبي الحقوقية، ط.1، 2019م، ص30-31. |
↑7 | علي الصديقي، مضمون العقد بين النزعة الشخصية والموضوعية، ص58. |
↑8 | علي الصديقي، مضمون العقد بين النزعة الشخصية والموضوعية، ص231. |
↑9 | علي الصديقي، مضمون العقد بين النزعة الشخصية والموضوعية، ص237. |
↑10 | علي الصديقي، مضمون العقد بين النزعة الشخصية والموضوعية، ص268. |
↑11 | حول هذا الخلاف ومنشأة والآراء حوله يراجع: بكر أبو طالب، أزمة العقد: دراسة مقارنة، ص187. |
↑12 | ينظر: بكر أبو طالب، أزمة العقد: دراسة مقارنة، ص196-200. |