رقمنة العدالة: هل يستطيع القانون الحاسوبي تغيير وجه القضاء في فلسطين؟
رقمنــة العــدالـة:
هل يستطيـع القانـون الحاسوبي تغييـر وجه القضاء في فلسطيـن؟
(بقلم الباحثة: ماسة رائد عورتاني)
القانون، بطبعه، يعتمد على اللغة الدقيقة والتفاصيل المعقدة، مما جعل فهمه في الماضي حكرًا على نخبة من المتخصصين مثل المحامين والقضاة، الذين يمتلكون الخبرة اللازمة لتفسير النصوص القانونية المعقدة حيث ان هذا الفهم لا يقتصر فقط على النصوص المكتوبة، بل يشمل أيضًا عوامل أخرى مثل السوابق القضائية، والوضع السياسي، والواقع الاجتماعي التي تلعب دورًا كبيرًا في تشكيل التطبيق العملي للقانون.
مع التطور التكنولوجي الحالي، بدأت الحدود الفاصلة بين القانون والتكنولوجيا تتلاشى، مما يضعنا أمام تغيير جذري في كيفية فهمنا للقانون وتطبيقه. اليوم، هناك فرص لغير المتخصصين لفهم تعقيدات القانون دون الحاجة إلى قراءة مئات الصفحات من كتب التفسير أو دفع تكاليف باهظة للمحامين. هذا أصبح ممكنًا من خلال ما يُعرف بالقانون الحاسوبي (Computational Law)، الذي يستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحليل النصوص القانونية وتقديم النتائج بشكل سريع ودقيق.
هذه البرامج ليست مجرد قفزة تكنولوجية؛ بل هي تحول يتحدى فهمنا التقليدي للنظام القانوني ومهنة المحاماة. إنها تجبرنا على إعادة تعريف الطريقة التي نتعامل بها مع القانون، سواء كمتخصصين أو كأفراد عاديين. لذلك، من الضروري أن نستعرض هذا التحول ونناقش ما يعنيه للمجتمع ككل، سواء على المدى القريب أو البعيد.
أولاً – ما هو القانوني الحاسوبي؟
القانون الحاسوبي هو أحد فروع المعلوماتية القانونية، ويُعنى بأتمتة التحليل القانوني، سواء كان ذلك من خلال أنظمة الذكاء الاصطناعي أو بإشراف بشري. يهدف هذا المجال إلى تحويل القواعد القانونية إلى صيغ واضحة وقابلة للمعالجة الآلية، مما يتيح للأنظمة الرقمية فهمها وتنفيذها دون الحاجة إلى التفسيرات البشرية المعقدة. لتحقيق ذلك، يعتمد القانون الحاسوبي على وضع قواعد قانونية دقيقة ومباشرة، مع تجنب الاعتماد على الأحكام الضمنية التي قد تؤدي إلى التباين في التفسير.[1]School, S. L. (2021, March 24). The cop in the backseat | Stanford Law School. Stanford Law School. https://law.stanford.edu/2021/03/24/the-cop-in-the-backseat/
بناء على هذا التعريف ولتعزيز فهم تداخل التكنولوجيا بالقانون يجب التطرق الى بعض النماذج العملية لها ومحاولة اسقاطها على الواقع الفلسطيني:
1- العقود الذكية: مثل العقود التقليدية، يتضمن العقد الذكي اتفاقًا بين أطراف متعددة مع شروط وبنود محددة. ومع ذلك، فإن الاختلاف الجوهري يكمن في أن هذه الشروط يتم كتابتها في شكل كود برمجي، مما يجعل العقد الذكي يعمل بشكل آلي وذاتي التنفيذ. بمعنى آخر، عند استيفاء الشروط المتفق عليها، يتم تنفيذ الإجراءات المحددة تلقائيًا دون الحاجة إلى تدخل بشري.
يعتمد العقد الذكي على مبدأ بسيط للغاية، وهو “إذا حدث هذا، فافعل ذلك” (If-Then). بعبارة أخرى، يتم برمجة العقد ليقول: “إذا تحقق الشرط X، قم بتنفيذ الإجراء Y”. في هذا السياق، تمثل X الشروط المتفق عليها مسبقًا، بينما تمثل Y الإجراءات التي يتم تنفيذها بشكل تلقائي عند استيفاء تلك الشروط.[2]محمد, ع. ا. ح. (n.d.). ما هي العقود الذكية وكيف تعمل؟ | شبكة الصحفيين الدوليين. شبكة الصحفيين الدوليين. … Continue reading
في العقود الذكية لخدمات الاشتراك مثل Netflix قد يكون الشرط X هو “عند انتهاء فترة الاشتراك الشهرية”، والإجراء Y هو “تجديد الاشتراك تلقائيًا وخصم المبلغ من حساب المستخدم”. بمجرد انتهاء الفترة، يتم تنفيذ الإجراء تلقائيًا دون الحاجة إلى تدخل من المستخدم أو الشركة.
أصبحت العقود الذكية جزءاً لا يتجزأ من حياتنا اليومية، حيث يتم استخدامها عبر الإنترنت بشكل شبه يومي. في الدول المتقدمة، تُستخدم هذه العقود في إدارة الحقوق الفكرية، وبيع وشراء العقارات، والتصويت الإلكتروني، وغيرها من العمليات. يعود هذا الانتشار إلى العديد من المزايا التي توفرها أتمتة العقود، أهمها اعتمادها على تقنية Blockchain التي توفر حماية عالية وتجعلها مقاومة للاختراق. بالإضافة إلى ذلك، تلغي العقود الذكية الحاجة إلى وسيط، مما يقلل التكاليف الإدارية ويوفر الوقت اللازم للإجراءات البيروقراطية.
من الأمثلة الواضحة على الاستخدام الواسع للعقود الذكية هي خطة بلوكشين 2021 التي أطلقتها الإمارات العربية المتحدة. تهدف هذه الخطة إلى تحويل 50% من المعاملات الحكومية إلى معاملات إلكترونية تعتمد على العقود الذكية. وقد نجحت هذه الخطة في توفير أكثر من 11 مليار درهم كانت تُنفق سنوياً على تقديم وتوثيق المعاملات والمستندات. هذا النموذج يُظهر كيف يمكن للعقود الذكية أن تعزز الكفاءة وتقلل التكاليف في القطاعات الحكومية والخاصة على حد سواء.[3]استراتيجية الإمارات للتعاملات الرقمية 2021 (بلوك تشين) | البوابة الرسمية لحكومة الإمارات العربية المتحدة. (n.d.). … Continue reading
يمكن الاستفادة من تجارب الدول الأخرى في تطبيق العقود الذكية من خلال قياس مدى الحاجة الفعلية لها في السياق الفلسطيني. على سبيل المثال، يمكن أن تساهم العقود الذكية في إنشاء نظام تسجيل رقمي أكثر كفاءة للأراضي والعقارات، حيث يتم توثيق عمليات البيع والشراء تلقائيًا عبر تقنية البلوكشين. هذا من شأنه الحدّ من التزوير وتقليل النزاعات الناجمة عن غموض الملكية، مما يوفر نظامًا أكثر شفافية وموثوقية في إدارة العقارات، خاصة في ظل التعقيدات القانونية الحالية.
2- تسوية النزاعات عبر الإنترنت (Online Dispute Resolution – ODR) هي عملية استخدام التكنولوجيا الرقمية لحل النزاعات خارج إطار المحاكم التقليدية. تعتمد هذه الأنظمة على منصات إلكترونية تتيح للأطراف التواصل وإدارة النزاعات وحلها بشكل سريع وفعال، دون الحاجة إلى حضور جلسات قضائية مادية. تشمل هذه الأنظمة أدوات مثل التفاوض الإلكتروني، الوساطة عبر الإنترنت، والتحكيم الرقمي.[4]Odr. (2021, January 26). What is ODR? ODR. https://www.ncsc.org/odr/guidance-and-tools#:~:text=Court%2Drelated%20Online%20Dispute%20Resolution,resolve%20their%20dispute%20or%20case
في ظل التحديات التي يواجهها الفلسطينيين للوصول الى العدالة سواء بسبب الحواجز العسكرية او الضائقة المالية، حيث لم تعد الطرق التقليدية كافية، يجب الاستثمار في التطوير لكي يمتلك الجميع فرصة استيفاء حقه. احدى الطرق التي يمكن ان يستفيد منها المواطن الفلسطيني هي برامج تسوية النزاعات عبر الانترنت حيث يجب ان يتم التعاون مع المؤسسات الدولية والمختصين القانونيين لتطوير مثل هذه الاليات وبناء الثقة مع المستخدم من خلال دعم التشريعات للقانون الحاسوبي.
3- أتمتة المعاملات القضائية: حيث يتم استخدام التكنولوجيا والبرمجيات لإدارة العمليات الروتينية والمعاملات بشكل آلي دون تدخل بشري كبير. تعتمد الأتمتة على تقنيات مثل الذكاء الاصطناعي، والبلوكشين، والبيانات الضخمة لتحليل المعلومات واتخاذ القرارات بسرعة ودقة حيث يتم إنجاز المهام في وقت قصير مقارنة بالطرق التقليدية، بالإضافة إلى تقليل الأخطاء البشرية التي قد تحدث في العمليات اليدوية. كما تسهم الأتمتة في تخفيض التكاليف التشغيلية، وتحسين تجربة المستخدم من خلال توفير خدمات سريعة ومتاحة على مدار الساعة.
بدأت الإمارات العربية المتحدة، كجزء من خطتها للتحول الذكي منذ مايو 2015، بتحويل 95% من خدماتها القضائية إلى خدمات ذكية. تشمل هذه الخدمات نظام رفع الدعاوى الإلكترونية، ومنصات للبحث عن المحامين، وخدمات كاتب العدل الإلكترونية.[5]التحول الذكي للنظام القضائي | البوابة الرسمية لحكومة الإمارات العربية المتحدة. (n.d.). … Continue reading
هذه الخطوات ساهمت في تسريع المحاكمات وتخفيف العبء على القضاة والموظفين. في السياق الفلسطيني، يمكن لتطبيق مثل هذه الخدمات أن يعزز كفاءة عمل المحامين والقضاة، ويقلل الضغط على المحاكم، ويسهل وصول المواطنين إلى الخدمات القضائية، متجاوزاً العوائق الجغرافية والإدارية التي تواجههم.
يمكن ايضا استخدام القانون الحاسوبي والذكاء الاصطناعي لأتمتة القضايا البسيطة التي تشكل عبئاً على المحاكم بسبب كثرتها، مثل مخالفات السير أو المطالبات المالية البسيطة. من خلال تطوير برامج ذكاء اصطناعي مدعومة بمدخلات من النصوص القانونية وتفسيراتها، بالإضافة إلى السوابق القضائية، يمكن لهذه البرامج تحليل القضايا وإصدار أحكام أولية فيها وتمكين المواطنين من دفع الغرامات الكترونيا. هذا النهج يقلل من عدد القضايا البسيطة التي تصل إلى القضاة، مما يتيح لهم التركيز على القضايا الأكثر تعقيداً. كما أن أتمتة هذه القضايا تعزز جودة عملية التقاضي وتسهم في تحسين النظام القضائي بشكل عام.
ثانياً – التحديات والإصلاحات الممكنة:
تعتمد جودة أنظمة الذكاء الاصطناعي في المجال القانوني بشكل أساسي على دقة ووضوح المدخلات، التي تتمثل غالبًا في النصوص القانونية. ومع ذلك، فإن تطبيق هذه الأنظمة على القوانين الفلسطينية، مثل قانون الأراضي، يواجه تحديات كبيرة نظرًا لتعقيده وتشتته، بالإضافة إلى وجود نصوص متناقضة تجعل من الصعب تحويلها إلى رموز قانونية قابلة للمعالجة آليًا. لذلك، يتطلب التعامل مع هذه القضايا تدخل مختص قانوني ذي خبرة لفهم السياقات وتفسير النصوص المعقدة.
إلى جانب ذلك، تعاني أنظمة الذكاء الاصطناعي من احتمالية التحيّز في إصدار الأحكام أو تقديم الاستشارات القانونية، حيث تعتمد في تحليلها على السوابق القضائية، التي قد تكون متأثرة بعوامل اجتماعية أو سياسية، مما يجعل الاعتماد عليها بشكل مطلق أمرًا غير دقيق.
لذا، ينبغي أن تستند عملية تطوير النظام القضائي في فلسطين إلى خطة تأخذ بعين الاعتبار خصوصية الواقع الفلسطيني، مع العمل على دمج التكنولوجيا القانونية بطريقة مناسبة. ورغم أن تعديل قانون الأراضي على المدى القريب قد لا يكون ممكنًا لتسهيل تعامل الذكاء الاصطناعي معه على سبيل المثال ، إلا أنه يمكن اتخاذ خطوات لتعزيز العدالة من خلال أتمتة بعض المعاملات القانونية لتسهيل الإجراءات على المواطنين و تسريع عملية التقاضي بما يخفف العبء على المحاكم ويحسّن كفاءة النظام القضائي.
كما يمكن الاستفادة من ارشادات اليونسكو حول استخدام الذكاء الاصطناعي في القضاء، والتي تتضمن: 1-. ضمان جودة البيانات من خلال التأكد من أن البيانات المستخدمة في تدريب الأنظمة القضائية دقيقة وخالية من التحيزات. 2- إشراك أصحاب المصلحة: العمل مع الجهات القانونية والقضائية لضمان تطوير هذه الأنظمة بما يخدم العدالة.3- توفير برامج تدريبية للقضاة والمحامين حول كيفية استخدام الذكاء الاصطناعي بفعالية وأمان.4- تقييم تأثير الخوارزميات اي إجراء دراسات تحليلية لتحديد تأثير الأنظمة الذكية قبل اعتمادها رسميًا في القضاء.[6]ERTAQY.COM Website Editor. (n.d.). إرشادات اليونسكو لاستخدام الذكاء الاصطناعي في القضاء: نحو عدالة أكثر شفافية وكفاءة. … Continue reading
ختاما، إن دمج الذكاء الاصطناعي في النظام القانوني الفلسطيني لا يجب أن يكون مجرد استنساخ للتجارب الدولية، بل يجب أن يُبنى على تحليل دقيق لاحتياجات العدالة في فلسطين، بحيث تأخذ الحلول التكنولوجية في الاعتبار السياق القانوني، السياسي، والاجتماعي الفريد. فبينما أثبتت الأنظمة الرقمية فعاليتها في تحسين كفاءة القضاء في بعض الدول، إلا أن نجاحها في فلسطين يتطلب تبني نهج تكاملي، لا يعتمد فقط على استيراد التكنولوجيا، بل على تطويرها محليًا لتلائم التحديات الموجودة.
إن غاية الرقمنة القانونية وادماج القانون الحاسوبي بفلسطين لا ينبغي أن تكون فقط تسريع المعاملات أو تخفيف العبء الإداري، بل يجب أن تمتد إلى ضمان الوصول إلى العدالة، لا سيما في ظل العوائق الهيكلية التي يواجهها الفلسطينيون، سواء من حيث تعقيد القوانين، أو محدودية الموارد، أو العوامل السياسية التي تؤثر في النظام القضائي. في هذا السياق، يمكن أن يمثل الذكاء الاصطناعي أداة تمكين، إذا تم توظيفه بشكل صحيح، بحيث يساعد على توحيد القوانين المتفرقة، تحسين دقة التفسير القانوني، وتقليل التفاوتات في تطبيق العدالة.
بقلم الباحثة: ماسة رائد عورتاني
مواضيع أخرى ذات علاقة:
- التحديات القانونية في التكنولوجيا الحديثة: ما هي المسائل القانونية المطروحة؟.
- الذكاء الاصطناعي: التحول القانوني القادم.
- تحليل الإطار القانوني في الذكاء الاصطناعي: التحديات والفرص.
- ثورة صامتة على الطرق: كيف ستغير السيارات ذاتية القيادة مستقبلنا؟.
- بحث قانوني حول المسؤولية المدنية والذكاء الاصطناعي.
المصادر والمراجع