الحماية القانونية للصحفيين في مناطق النزاع (غزة نموذج)
الحماية القانونية للصحفيين في مناطق النزاع (غزة نموذج)
(بقلم الباحثة: أشجان رائد الشريف)
تُشكّل الصحافة خط الدفاع الأول عن الحقيقة، لا سيّما في خضمّ النزاعات المسلحة، إذ تُعدّ مهنةً إنسانيةً ساميةً تتصدّى للتعتيم، وتوثّق الجرائم، وتنقل للعالم ما يعجز الضمير عن احتماله.
وفي ظلّ العدوان المستمر على غزة، لعب الصحفيون دورًا محوريًا في تسليط الضوء على الانتهاكات المرتكبة بحق المدنيين، فكانوا شهودًا على الدم، ومنبرًا للضحايا؛ مما جعلهم هدفًا مباشرًا لآلة القتل، في انتهاكٍ صارخ لقواعد القانون الدولي الإنساني، التي أوجبت حمايتهم ومنعت استهدافهم.
أولاً – حماية الصحفيين في القانون الدولي الإنساني
يفصل القانون الدولي الإنساني بين نوعين من الصحفيين أثناء النزاعات المسلحة: المراسلون الحربيون المعتمدون من القوات المسلحة، والصحفيون المدنيون المستقلون.
ووفقًا لإتفاقية جنيف 1949 والبروتوكول الإضافي الأول 1977، يتمتع الصحفيون بوضعية مدنيين ما دامت مهامهم لا تنطوي على مشاركة مباشرة في الأعمال القتالية، ويجب حمايتهم.
كما تؤكد القاعدة رقم 34 من الدراسة العرفية للجنة الدولية للصليب الأحمر أنه: “يجيب احترام وحماية الصحفيين المدنيين العاملين في مهام مهنية أثناء النزاعات المسلحة، ما داموا لا يشاركون مباشرة في الأعمال العدائية.”
وهذا يعني أن الصحفيين الذين يعملون في مناطق النزاع ويؤدّون مهامًا مهنية بحتة – كالتصوير والتغطية الإخبارية – يُعتبرون مدنيين بموجب القانون الدولي الإنساني، وبالتالي يجب احترامهم، وعدم عرقلة عملهم، وضمان حمايتهم وتمكينهم من أداء مهامهم دون تعرّض للخطر، ما داموا لا يشاركون مباشرة في الأعمال العدائية.
ثانياً – القضاء الدولي والاعتراف بأهمية الصحافة
أقرت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة في قضية راندال 2002 بحق الصحفيين في حماية خصوصيتهم المهنية، واعتبرت أن الصحفيين يخدمون الصالح العام ويؤدون دورًا حيويًا في كشف الفظائع، وبالتالي فإن حمايتهم ضرورة لضمان نقل الحقيقة وتحقيق العدالة لاحقًا.
ثالثاً – قرارات مجلس الأمن
أصدر مجلس الأمن قرارين مهمين بشأن حماية الصحفيين:
- القرار 1738 (2006): يدين استهداف الصحفيين ويشدد على ضرورة معاملتهم كمدنيين بموجب القانون الدولي الإنساني.
- القرار 2222 (2015): يكرّس الحماية للصحفيين والمعدات والمكاتب الإعلامية، ويعتبرها أصولًا مدنية لا يجوز استهدافها أو الرد عليها بعمليات انتقامية.
أكّدت قرارات مجلس الأمن، على وجوب اعتبار الصحفيين العاملين في مناطق النزاع أشخاصًا مدنيين، يتمتعون بالحماية الكاملة بموجب القانون الدولي الإنساني، مما يترتب عليه حظر استهدافهم أو الاعتداء عليهم بأي شكلٍ من الأشكال.
وبذلك، يُعد العمل الصحفي مهمة مدنية خالصة لا يجوز التعامل معها كهدف عسكري، بل يجب احترامها كجزء من التزامات المجتمع الدولي بحماية حقوق الإنسان أثناء النزاعات.
رابعاً – الواقع في غزة… حين يصبح الصحفي هدفًا
منذ السابع من أكتوبر، تعرّض العشرات من الصحفيين الفلسطينيين للاغتيال المباشر من قبل قوات الاحتلال في قطاع غزة، بينهم صحفيون كانوا يرتدون زيًا واضحًا يميزهم كصحفيين. وقد تم استهداف مكاتب إعلامية، وارتكبت جرائم موثقة بحقهم، في خرق صارخ لكافة الاتفاقيات والقرارات الدولية. بل إن الصحافة في غزة أصبحت جرمًا يعاقب عليه الاحتلال، لأنها تكشف الحقيقة وتفضح جرائم الحرب.
رغم الإطار القانوني الذي يُفترض أن يمنح الصحفيين الحماية، تبقى هذه الحماية نظرية في ظل غياب آليات تنفيذ فعّالة تردع المعتدي وتحاسب المنتهِك. ما يحدث في غزة يتجاوز كونه انتهاكًا، بل هو إعلان حرب على الكلمة والصورة والحقيقة.
وحتى تاريخ 11 أغسطس 2025، وثّقت نقابة الصحفيين الفلسطينيين استشهاد 238 صحفيًا وموظفًا إعلاميًا منذ بدء العدوان على غزة، وهو الرقم الأعلى المسجّل في نزاع واحد في تاريخ الصحافة الحديثة، متجاوزًا حتى عدد الصحفيين الذين قتلوا في الحرب العالمية الثانية، والذين بلغ عددهم 70 صحفيًا فقط.
هذه الحصيلة تتجاوز بكثير أعداد الصحفيين الذين قُتلوا في أي نزاع آخر خلال العقود الماضية، وتشكل سابقة خطيرة على حرية الصحافة عالميًا.
إن حماية الصحفيين ليست ترفًا قانونيًا، بل ضرورة أخلاقية لضمان استمرار دورهم في نقل ما يحدث، ولبناء ذاكرة قانونية تُستند إليها المساءلة لاحقًا.
بقلم الباحثة: أشجان رائد الشريف
مواضيع أخرى ذات علاقة: